نداء يتعثر كحجر: مشاهد الصمت وإغراءاته

قيرين عجو *

 

 يحتل موضوع الصمت لدى الكاتب أهمية خاصة، وهذا لعلاقته المتينة باللغة الذي كتب بها نصوصه. يقول رولان بارت: ” إن هروب اللغة الدائم إلى الأمام حيال نواظم الفوضى اللغوية وحيال هذا التفكيك لا يؤدي إلّا إلى صمت الكتابة”1

وهذا بالضبط ما أوصله إلينا الشاعر من خلال ديوانه الشعري، التي تحتوي ثلاث منعطفات. وكلّ منعطف يحمل عناوين فرعية مغايرة لشذراته. أخذ العناوين في ديوانه حيزاً كبيراً. و هذا ما وجدناه في المنعطف الأول الذي بعنوان، سفوح كباش و لسان معضوض، و العناوين الفرعية (عن تلك الشجرة التي تستضيء بها الليل في سيره الأعمى)،( كقصيدة تمكث على لسان اللغة) (لكي أتورد كالنسيان بين أصابعك) من خلال مستوى البنية للعناوين، نجد أنها تمتاز بالتعقيد و التشابك، في اشتماله على أكثر من جملة. كما ورد في كتاب في نظرية العنوان، للكاتب نفسه، حيث يقول: “العنوان الذي يتخذ من الجملة المكونة من مركبات أسنادية أو مركبات يشتمل على إسناد. و بمعنى أخر تتداخل جملتان أو أكثر في إطار تركيب جملي يمتاز بالتعقيد و التشابك”2

وفي هذا المنعطف بالذات نجد أن الشاعر اعطى كلّ شذرة عنواناً يميزها عن الأخرى.

تعمّق الشاعر في قصائده محاولاً إعطاء نصوصه أشكالاً مختلفة للصمت، و كأنه بهذا الغموض حاول الهروب من الواقعية، باستخدامه للصور الوصفية من خلال البعد التصويري لكلّ مشهد من مشاهد المقارنة التي وظّفها في خدمة نصوصه. واعطائها جماليةً في نفس الوقت، وجعل القارئ يشعر بالمتعة وهو يحاول فكّ شفرة جمله المنساب بخفة ورشاقة من خلال رسم أفق جميلٍ واستحضاره في مخيلة القارئ وإاعطاءه السكون العميق والإثارة و المتابعة.

المنعطف الأول وقصيدة، سفوح كباش ولسان معضوض، وتحديداً في الشذرة (عن تلك الشجرة التي يستضيئ بها الليل في سيره الأعمى)، يقول الشاعر:

ياليتني كنت حجراً ملموماً على صمتي، يعبرني الرعاة ويبكيني العشاق، تعبرني الرياح، والعواصف تجتاحني وأبقى، كما أنا، حجراً ألقن الأبدية نشيد الأزل. يا ليتني كنت حجراً، ليعبرني الحب كمسافر دون أثرٍ لتعبرني الغزالة ولا تطعن قلبي النوى!

يا ليتني كنت هناك ويسكني حجر… 3

في هذه الشذرة نلاحظ استخدام الشاعر الأسلوب التكراري ودمجها مع الصور الوصفية، كما في جملة:

/ياليتني كنت حجراً/، الأسلوب التكراري هنا اعطى الصمت عمقاً لامتناهياً في مشهد نشيد الأزل، والربط بين سكون الحجر وسكون الليل، من خلال البحث عن الخلود والأبدية. ورغبته بالتحول إلى حجر.

وغايته في هذا الصمت الوصول إلى الحقيقة الأبدية، من خلال تقمص أدوار الطبيعة وما وراء الطبيعة لبلوغ غايته. فالأبدية عند الشاعر تشكل الباعث الوحيد، المثير للفكر، ولبلوغ نهاية النشاط الذهني.

اختار الشاعر لغة الصمت كي يعبّر عن غايته للوصول إلى تلك الحقيقة الأزلية، لكن الشاعر عندما اختار أن يتحول إلى حجر صامت كان غايته أن تسكنه روح تائهة. أما في شذرة البحيرة:

زمنٌ خريفٌ إذ تنعطف أطراف النهار على أسرار البحيرة وهذه الجبال لا تتقن سوى الطعن الغيوم ــ إناث يملن تحت وطأة الشغف، إناث يتساقطن قطناً، البحيرة غمازة الأرض، تومض بنداءات للآلهة أن اهبطي… حيث كانت يوماً أعشابا حوشية، أو أحجاراً تودعها الكينونة ألغازها. خريف ذهبيٌّ وعلى ضفة العشب غزالتان تمنحان النسيم في رغبته وتدعان الآلهة في صخب الصمت..4

فالصورة الوصفية في هذه الشذرة تحمل بعداً تصويرياً مغرياً لمشهد الخريف الذي يحمل في طياته إعصاراً وعاصفةً رغم الهدوء والصمت السائد. إضافة أنه يحمل في كينونته لغزاً و غموضاً مثيراً، يجعل الناظر إليها مذهولاً و صامتاً أمام هذا التبدل و التحول، دون أن يصدر عنها صوت،و هذا ما نراه في مشهد البحيرة بركودها الخارجي، حيث نراها هادئة كأنها السكون الأبدي، لكنها تخبّئ في أعماقها خلجات وأسرار هائلة. وكذلك الأمر الجبال وما تحمله من طعنات إلا أنها تحافظ على هدوئها وصمودها وشموخها. انتقالا إلى الغيوم وهن يتمايلن بهدوء ويتناغمن فيما بينهن بشغف عند التلاقي ويندمجن مع بعضهن البعض ويرسمن لوحة مثيرة للجدل، ويجعل الناظر إليها، يتأملها ويتعمق بالتفكير بهذا الصمت الرهيب وهن يشكلن لوحة تلو اللوحة. من ناحيةٍ يصور الشاعر هذا المشهد الخريفي الذهبي على ضفة البحيرة وترافقها مداعبة صامتة من النسيم للغزالتين كأن الآلهة تراقب هذا التناغم الصامت بين الطبيعة والكينونة، و من ناحية أخرى قد تفكر عميقاً في سر هذا الصمت الذي يسبق العاصفة، حيث يشعر العاشق باضطراب في داخله دون أن يدرك السبب، لكن الطبيعة تدرك سر هذا الارتباك الحاصل وتتهيأ بحذر لهذا الصمت المريب و تحاول أن تتوارى و تحمي نفسها من جنون العاصفة.

 ينتقل الشاعر بخفة ورشاقة من مشهد الخريف إلى مشهد الربيع من خلال إشراقة وردة. يقول الشاعر في هذا المشهد

كأن الأمر لم يكن سوى إشراقة وردة… أتأمل عينيك الواسعتين، أحضن بكفي وجهك الصغير الناعم على غير ما توقعت، أتأمل أصابعك المنتهية بأظافر طويلة ذي لون غريب، رخام عنقك يسطو عليّ دون رأفة، وفي لحظة غير متوقعة تماماً تجنحين إلى قياس قامتي بقامتك على سبيل الدعابة… ثم يسود صمت آخاذ. ثم نظرة عميقة من عينيك تأخذني إلى الأبد.(5)

. هنا يقوم الشاعر برسم مشهد أخاذ يسودها الصمت في عينيّ محبوبته التي تأخذانه إلى الأبدية. نلاحظ أن الشاعر كأنه تقصّد أن يمزج بين الفصول ولم يتعمد التسلسل كما فعل إليوت في رباعياته الجميلة عندما اختار تسلسل الفصول والانتقال بينها.(6)

عند قراءة كلّ منعطف نلاحظ ثمة تشابه بين نصوصه و الملاحم القديمة، و الأغاني التراثية القديمة، حيث نجد أنهم يتتبعون تسلسلاً قبل الدخول إلى أحداث القصة الرئيسية، معظم المغنيين القدامى، بشكل عام كانوا يبدؤون بالمناجاة والشكر و الدعاء ثم يسترسلون بوصف الطبيعة، المكان، الزمان، منهم من يطلق بعضا من الحكم والمواعظ، إلى أن يصلوا إلى أحداث القصة الاساسية. وهذا أيضاُ ما نجده عند أحمد خاني في ملحمة مم وزين وفقي تيران في شيخي صنعان وملحمة دم دم. وغيرها..

الشاعر حتى لو لم يكن متقصداً لكننا نلاحظ هذا الاسترسال في ديوانه، عندما بدأ نصوصه بالبحث عن الخلود والأزلية ثم قام بوصف الطبيعة وإلقاء الضوء على جماليتها حتى يبدأ بالدخول في صلب قصته وهو الغزل و وصف محبوبته عندما يقول:

لا يكفي أن أقول عنها يد رخصة كشغب الندى في اليقظة المتأخرة لهذا العشب الغارق في الكسل راهن الوقت…. امرأة تسكن الكستناء في شعرها، وبتفصيل: امرأة بشعر كستنائي يناوش الذهب حينا كما لو أن الليل قد ارتكب خطأ في هندامه فبدا متنكراً للنهار قليلاُ. امرأة يستيقظ بلمسة من أناملها ذاك الحجر المركون في رشاقته على حافة الماء من غفوة الأبد، امرأة من رائحة القهوة بنظرةٍ تندلع الحرائق في جسد نمر متوحشٍ هناك .(7)

في هذه الشذرة أجرى الشاعر مقارنة خاصة تليق بمحبوبته ذات الشعر الكستنائي، و هي ترتشف قهوتها ضمن مشهد هادئ و صامت. و يرافق شرودها تناغم الغيوم في امتداد السماء. وهدوء المحبوبة و عنفوانها، تشبه هدوء و سكون اليمامة و خفتها.

 يقول الشاعر هنا:

لا ألفة للمكان من دون الهديل. هديلك، رنين صوتك الآخاذ حرير يراكم الندى(8)

يسرد الشاعر بوصف صوت محبوبته، بقوله صوتها كهديل الحمام أخاذ، ولصوت رنة خلخالها نغمة الحرير المتراكم على خدود صباحات البعيدة. أعطى الشاعر الصمت؛ أكثر إغراءً في هذا المشهد، من خلال قطرات الندى المتراكم، والفراشات متنقلة قرب البحيرة. وكل هذا السكون والرغبة الجامحة في احتضان المياه يثير تناقضات من هيجان النار، وبرودة النهر، شموخ النخلة، ونغم صاخب ورفاهة نعيم. كلها إشارات إن دلّت فهي تدل على الجمال الفائق والآخاذ

وأما عن التناقض بين الضجيج وإغراءات الصمت في (كقصيدة تمكث على لسان لغة…)، في هذا المشهد يتحول الصمت المريب كي يشكّل تناقضاً في المشاركة. وهذا التناقض يثيره الشاعر في شهوة المطر، ورغبة التوغل، اقتفاء أثر، من ثم يتوغل التردد كي تصبح نجمة بعيدة شاردة تعكس ضوءها على تلك البحيرة ومعها تتحول إلى وردة مملة يسكنها التردد. ومن ثم يسود صمت بعيد كي يخلق هذا السكون. ينتقل الشاعر إلى صمت أكثر إغراءٍ، حيث يتسلل العاشق بصمت إلى عرائش العنب كي يلتقي خلسة أثر رنة خلخال محبوبته. تقول سوزان سونتاگ في مقالة لها عن جماليات الصمت،(9)

 “إن فن زمننا يتميز بالضجيج و إغراءات الصمت.” هذا ما يلفت الانتباه في هذا المقطع: لكي أتورد كالنسيان بين أصابعك. عندما يقول الشاعر:

 كومضة، تهدهد رغبة الماء كيمامة تباده شجرة في أعالي صمتها… توقظ، التي من صدى الينابيع، من سر السراب، تشعل السرد في نهد الأبد. (10)

نلاحظ في هذه الشذرة الضجيج الحاصل بين أحضان الطبيعة من تمردها تارة وسكونها تارة أخرى وبين إغراءات الصمت السري عندما يلتقي العاشقان، هذا التجاذب المتناقض بين الضجيج في فعل المجيء، وصوت هديل الحمامة، صدى الينابيع، السرد. وإغراءات الصمت في الجانب المقابل، الومضة الخاطفة، الرغبة السرية الصامتة والعميقة وصمت الشجرة، و سر السراب، و نهد الأبدية.

في النهاية نجد أن الشاعر أعطى الصمت سحراً خاصاً ومثيراً في نفس الوقت. غايته التحرر من كلّ شكل من أشكال القيود والفوضى التي تسود الكتابة، والتعبير عن غايته بلغة شعرية بسيطة من حيث استخدامه للمفردات. وعميقة من حيث الفكرة التي أراد الشاعر أن يوصله إلى ذهن المتلقي. أما من حيث السلاسة في المواضيع نجده متنقلا بخفة وطلاقة من جهه، و متوارياً ومختفياً من جهة أخرى. كأنه بافتعاله كل هذا الضجيج المفتعل اراد أن يخبأ عشقاً صامتاً في أعماقه ومشاركته مع جنون الطبيعة الصاخبة حينا، وسكون الطبيعة وهدوءها من جهة أخرى.

 

المصادر و المراجع:

1-في الأدب و الكتابة و النقد، رولان بارت(64/65)

2-في نظرية العنوان، د. خالد حسين(255)

3-ديوان نداء يتعثر كحجر، د. خالد حسين(9)

4-المصدر السابق(11)

5-المصدر السابق(12)

6-رباعيات اليوت، توفيق صايغ

7-ديوان الشاعر السابق(13)

8-المصدر السابق(14)

9-في العزلة و الأدب و جماليات الصمت، د. خالد حسين(44)

10-ديوان الشاعر (27).

 

‐‐———————-

*قيرين عجو: كردية سورية مقيمة في دهوك، تخرجت في جامعة حلب للآداب قسم اللغة العربية .. كاتبة مقالات باللغتين الكردية والعربية.

اترك ردّاً