صونُ ما يكاد يُنسى…! ديار ملا

ديار ملا

          

أهميةُ التُراثِ الموسيقي في الحفاظ على الهوية الثقافية .  

الموسيقى التُراثية ليست مُجردَ ألحانٍ و أنغامٍ تُعزفُ في مُناسباتٍ تقليدية ، وليس مجردُ مزيجٍ من الألحان و الإيقاعات ، بل هو تجسيد لتاريخ و ثقافةِ الأمة ، بل تعبر عن هوية المجتمع و تاريخه فهي تعكس البيئة الطبيعية والاجتماعية و السياسية التي عاشَ فيها الأجداد ، وتحمل في طياتها قصصاً وأساطير تعكس قيمهم وطرق حياتهم . إنها تلعبُ دوراً كبيراً في نقلِ القيم و التقاليد و العادات من جيلٍ إلى جيل وهي وسيلةٌ لتعليمهم حول تاريخهم وتراثهم عبر هذه الموسيقى ، مما يسهم في ترسيخ الهوية الوطنية و تعزيز الفخر بالثقافة المحلية ، وتُمثِلُ سجلاً حياً للأحداث التاريخية والتجارب الإنسانية . علاوةً على ذلك يساعدُ التراث الموسيقي في توحيد المجتمع حيثُ يعتبر جزءاً من ذاكرة الجماعة التي تشترك فيها الأجيال المتعاقبة . بل ويساعد في تعزيز التنوع الثقافي العالمي . في ظل العولمة والتوجه ُنحو الثقافة الموحدة ، يصبح الحفاظ على التراث الموسيقي المحلي وسيلة لمقاومة الاندماج الثقافي المفرط الذي يهدد بطمس الفروقات الثقافية بين الشعوب . كما إنه يعزز من فهم الأفراد لماضيهم وياسعدهم على الحفاظ على روابطهم الثقافية حتى في مواجهة التغيرات الاجتماعية و الاقتصادية . و في السياقِ العالمي أيضاً يُساعد التراث الموسيقي في التعريف بالثقافات المختلفة ، ويعزز من الحوار الثقافي بين الشعوب ، مما يسهم في التفاهم المتبادل و الاحترام بين الثقافات . 

• تحديات الحفاظ على الموسيقى التراثية

يواجهُ الحفاظ على الموسيقى التراثية تحديات عديدة في عصرنا الحالي من بينها :  

١ – التقنيات الحديثة : في عصر التكنولولجيا المتقدمة أصبح التأثير السلبي للتقنيات الحديثة على التراث الموسيقي مسألة مثيرة للقلق . قد تكون التكنولوجيا محركاً للتقدم و الابتكار ولكنها أيضاً قد تساهم في تآكل الهوية الموسيقية التقليدية كالتالي : 

 _ التغيير في الأذواق والتفضيلات : التقنيات الحديثة بما في ذلك منصات بث الموسيقى والتطبيقات المخصصة ، تتيح للجمهور الوصول إلى مجموعة واسعة من الأنماط الموسيقية العالمية ، قد يتسبب هذا التنوع في إقبال الجمهور على أنواع موسيقية جديدة و عصرية على حساب الموسيقى التقليدية . هذه الظاهرة يمكن أن تؤدي إلى انخفاض الاهتمام بالتراث الموسيقي المحلي مما يعرضه للتهديد . 

_ التحوير في الأساليب والأداء : أدوات التسجيل والتعديل الرقمية تتيح إمكانية تحرير وتغيير الموسيقى بطرق لم تكن ممكنة من قبل . قد يؤدي هذا إلى التلاعب في الألحان الأصلية والإيقاعات التقليدية ، مما يغير طبيعة التراث الموسيقي ويقلل من نقائه . عندما يتم تعديل الموسيقى الأصلية بشكل مفرط ، قد تفقد الأجيال القادمة فرصة الأستمتاع بها كما كانت تؤدى في سياقها الثقافي الأصلي . 

_ فقدان الحرفية والأداء الحي : التكنولولجيا قد تقلل من قيمة الأداء الحي والحرفية الموسيقية التقليدية . الاعتماد المتزايد على الأدوات الرقمية في التسجيل والإنتاج يمكن أن يقلل من الحاجة إلى الأداء المباشر والتدريب المهاري ،مما يعرض التقنيات الموسيقية التقليدية للخطر .

_ تأثير الثقافة العولمية : في عالم مترابط بشكل متزايد ، قد تتعرض الموسيقى التقليدية لمناقشة شديدة من الثقافات الموسيقية العالمية التي تفرض عبر التقنيات الحديثة . هذا يمكن أن يؤدي إلى تآكل التراث الموسيقي المحلي ، حيثُ تصبح الموسيقى العالمية أكثر انتشاراً و تأثيراً . 

{ بينما تقدم التقنيات الحديثة فرصاً مثيرة لتطوير الموسيقى وتوسيع نطاقها ، يجب التعامل مع تأثيراتها على التراث الموسيقي التقليدي بحذر . من الضروري العمل على استراتيجيات توازن بين الابتكار والحفاظ على الأصالة ، لضمان استمرار التراث ااموسيقي في الأجيال القادمة بأفضل صورة ممكنة } .  

٢ – الاندماج الثقافي : يشير الأندماج الثقافي إلى التفاعل بين الثقافات المختلفة وتأثر بعضها ببعض . هذا التفاعل قد يُثري الثقافات ويضيف إليها عناصر جديدة ، إلا إنه يمكن أن يكون له تأثيرات سلبية . خاصة على الموسيقى التراثية ، باعتبارها جزءاً من هوية وثقافة الشعوب ، تتأثر بشكل خاص بالأندماج الثقافي ، حيث يمكن أن يؤدي هذا التأثير إلى طمس ملامحها الأصلية وتلاشيها بمرور الوقت ، كالتالي : 

_ ضياع الهوية الموسيقية : عندما تنخرط ثقافة ما أخرى ، غالباً ما تتعرض الموسيقى التراثية للتغيير والتكيف مع الأشكال الموسيقية الجديدة . هذا التحول قد يؤدي إلى فقدان الهوية الموسيقية الأصلية ، حيث تصبح العناصر الموسيقية التقليدية مغمورة بالعناصر الموسيقية الدخيلة . مع مرور الوقت ، قد تصبح هذه الموسيقى التراثية غير قابلة للتعرف على ملامحها الأصلية . 

_ تلاشي الأنماط الموسيقية التقليدية : الاندماج الثقافي يمكن أن يؤدي إلى انتشار أنماط موسيقية جديدة على حساب الأنماط التقليدية . عندما تتبنى المجتمعات الموسيقى الحديثة القادمة من ثقافات أخرى ، قد يتضاءل الاهتمام بالأنماط الموسيقية التقليدية . نتيجة لذلك ، قد يتوقف العزف على الآلات الموسيقية التقليدية وتنتقل الأغاني التراثية إلى النسيان ، مما يؤدي إلى انقراض هذه الأنماط بمرور الوقت . 

_ تجارية الموسيقى التراثية : في ظل العولمة والاندماج الثقافي ، قد تصبح الموسيقى التراثية سلعة تجاربة تسعى الشركات إلى ترويجها لتحقيق الأرباح . هذا التوجه قد يؤدي إلى تحريف الموسيقى التراثية وتبسيطها لتكون أكثر جاذبية للجمهور العالمي . في هذه العملية ، قد يتم تجاهل الأبعاد الثقافية والرمزية العميقة لهذه الموسيقى مما يضعف من قيمتها التراثية .

_ تحديات نقل التراث الموسيقي : من أبرز التحديات التي تواجهها الموسيقى التراثية في ظل الاندماج الثقافي هو نقل هذا التراث إلى الأجيال القادمة . في مجتمع يتعرض لتأثيرات ثقافية خارجية قوية ، قد لا يجد الشباب الأهتمام الكافي بتعلم موسيقاهم التراثية ، مما يهدد استمراريتها . كما أن تغيّر الأذواق الموسيقية قد تدفعهم إلى تبني الأنماط الموسيقية الحديثة ، مما يعزز من خطر انقراض الموسيقى التراثية . 

{ الاندماج الثقافي يمكن أن يكون سيفاً ذا حدين . على الرغم من الفوائد العديدة المحتملة له ، إلا أن له تأثيرات سلبية على الموسيقى التراثية الكُردية قد تؤدي إلى فقدان الهوية الثقافية وضياع الأنماط الموسيقية التقليدية . من الضروري أن تكون هناك جهود متواصلة للحفاظ على الموسيقى التراثية الكُردية وتعزيزها ، وذلك من خلال التعليم والتوثيق ، ودعم الفنون التقليدية ، لضمان استمرارية هذا الإرث الثقافي الثمين } .  

٣ – نقص التوثيق : التوثيق هو أحد العناصر الأساسية للحفاظ على التراث الموسيقي لأي مجتمع ، إذ يلعب دوراً حاسماً في نقل هذا التراث من جيل إلى جيل وضمان استمراريته وتطويره . ولكن نقص التوثيق أو غيابه يمكن أن يؤدي إلى تأثيرات سلبية كبيرة على هذا التراث ، وهو ما يتطلب التطرق إليه بالتحليل والدراسة ومنها :

_ فقدان الهوية الثقافية : الموسيقى ليست مجرد أصوات ونغمات ، بل هي جزء لا يتجزأ من هوية المجتمعات . عندما لا يام توثيق التراث الموسيقي بشكل كافٍ ، فإن العديد من القطع الموسيقية والأنماط قد تضيع بمرور الوقت . هذا الفقدان يؤدي إلى تآكل الهوية الثقافية للمجتمع ، حيث تعد الموسيقى أحد أهم وسائل التعبير عن هذه الهوية . 

_ تراجع المعرفة الموسيقية : التوثيق الموسيقي لا يشمل فقط تسجيل الألحان والأغاني ، بل يتعداه ليشمل توثيق المعارف المتعلقة بكيفية أداء هذه الألحان ، والآلات الموسيقية المستخدمة ، والأساليب والطقوس المرتبطة بها . نقص التوثيق يؤدي إلى تراجع المعرفة الموسيقية حيث تفقد الأجيال الجديدة الاتصال بالجوانب العميقة لتراثهم الموسيقي . وبالتالي ، يتم تقليص القدرة على ابتكار وتجديد هذا التراث . 

_ تلاشي التنوع الموسيقي : التنوع الموسيقي هو ما يمنح المجتمعات ثراءً ثقافياً ويجعلها مميزة . عندما لا يتم توثيق الموسيقى التقليدية الموروثة ، فإننا نخاطر بفقدان هذا التنوع لصالح الأشكال الموسيقية الأكثر شيوعاً والتي قد تسيطر على الساحة . هذا التلاشي يؤدي إلى توحيد الأنماط الموسيقية وفقدان التميز الذي كان يميز مجتمعاتنا عبر العصور . 

 _ ضعف التعليم الموسيقي : تلعب الموسيقى دوراً مهمت في العملية التعليمية ، سواء كان ذلك في تطوير الحس الفني لدى الطلاب أو في تعزيز التفاهم بين الثقافات المختلفة . نقص التوثيق يجعل من الصعب تضمين الموسيقى التقليدية في المناهج الدراسية مما يحد من قدرة الأجيال الناشئة على الأستفادة من تراثهم الموسيقي . 

{ نقص التوثيق يمثل خطراً كبيراً على التراث الموسيقي ، وهو ما يستوجب اتخاذ خطوات فعالة للحفاظ على هذا التراث . يجب أن تتضافر الجهود بين الحكومات ، والمؤسسات الثقافية ، والباحثين ، لصمان توثيق الموسيقى التقليدية بشكل دقيق وشامل . فقط من خلال هذا يمكننا ضمان نقل نذا التراث إلى الأجيال القادمة والمحافظة على هويتنا الثقافية الغنية والمتنوعة } . 

• جهود الحفاظ على الموسيقى التراثية .

الحفاظ على التراث الموسيقي هي مهمة معقدة تتطلب جهوداً متعددة الجوانب من أجل ضمان بقاء هذه الموروثات الثقافية حية للأجيال القادمة ، ومن أجل مواجهة هذه التحديات يجب تنفيذ مجموعة من الجهود الفعالة للحفاظ على الموسيقى التراثية منها : 

١ – التوثيق : التوثيق هي الخطوة الأولى والأكثر أهمية في الحفاظ على التراث الموسيقي . يتمثل التوثيق في جمع وتسجيل كل المعلومات الممكنة حول القطع الموسيقية ، سواء كانت مكتوبة أو مسموعة . يشمل ذلك : 

_ تسجيل الصوت : يتضمن تسجيل الأداءات الموسيقية التقليدية باستخدام تكنولوجيا حديثة مثل التسجيل الرقمي عالي الجودة . هذا يسمح بحفظ النغمة والأداء بأعلى دقة ممكنة .

_ التوثيق الكتابي : كتلبة النوتات الموسيقية بالتفصيل ، بالإضافة إلى جمع وتوثيق الكلمات والأشعار المرتبطة بالموسيقى . قد يشمل ذلك أيضاً التدوين التاريخي لأصول القطع الموسيقية والتغيرات التي طرأت عليها عبر الزمن .

_ التوثيق البصري : تسجيل الأداءات الموسيقية بالفيديو ، مما يسمح بالحفاظ على جوانب الأداء عير الصوتية مثل حركات العازفين ، وتفاعلهم مع الجمهور ، واستخدام الآلات الموسيقية.

_ جمع المواد الشفوية : مقابلة الموسيقيين المحليين وجمع قصصهم وتجاربهم مع الموسيقى ، مما يساعد في فهم السياق الثقافي والاجتماعي الذي نشأت فيه هذه الموسيقى .     

٢ – التعليم والتوعية : التعليم والتوعية هما المفتاح لضمان استمرارية التراث الموسيقي ، الجهود تشمل :

_ التعليم الرسمي : دمج الموسيقى التقليدية في المناهج الدراسية وتدريب الموسيقيين الجدد على أساليب الأداء التقليدي 

_ الورشات والندوات : تنظيم ورشات عمل وندوات حول التراث الموسيقي بمشاركة خبراء وموسيقيين تقليديين . هذه الفعاليات تساعد في نشر المعرفة وزيادة الوعي بأهمية الحفاظ على هذا التراث . 

_ المشاريع المجتمعية : دعم المبادرات المحلية والمشاريع التي تهدف إلى إحياء الموسيقى التقليدية وتقديمها بطرق مبتكرة ، مثل تنظيم مهرجانات موسيقية أو إنشاء فرق موسيقية محلية .    

٣ – الترويج : يلعب الإعلام دوراً كبيراً في نشر الوعي حول التراث الموسيقي . يمكن لوسائل الإعلام المختلفة ، مثل التلفزيون ، والإذاعة  ، والإنترنت ، أن تساهم في الترويج للموسيقى التقليدية من خلال برامج وثائقية  ، ومقابلات مع موسيقيين ، وحفلات موسيقية تبث على الهواء مباشرة ، كذلك ، يمكن لوسائل التواصل الاجتماعي أن تكون وسيلة فعالة للترويج للتراث الموسيقي من خلال نشر مقاطع فيديو تعليمية ، أو حفلات موسيقية > أو مقالات توعوية . 

٤ – الدعم الحكومي : تحتاج المؤسسات الثقافية المعنية بالموسيقى ، مثل المعاهد الموسيقية ، والمتاحف ، والجمعيات الثقافية ، إلى دعم مالي مستدام من الحكومة . هذا الدعم يمكن أن يكون على شكل منح أو تمويل مستمر يمكن هذه المؤسسات من تقديم برامج تعليمية ، وتنظيم حفلات موسيقية ، وورش عمل تهدف إلى إحياء وترويج التراث الموسيقي . كما إنه يحتاج إلى إطار قانوني يحمي حقوق الملكية الفكرية للأعمال الموسيقية التراثية . يجب على الحكومة سن قوانين تحمي هذا التراث من التلاعب أو التشويه ، وتضمن استمرارية  استخدامه بشكل يحترم أصالته . 

الموسيقى التراثية تبقى هي اللغة التي تتحدثُ بها أرواح الأجداد إلى الأجيال الجديدة حاملة معها قصصاً لا تُنسى و حكماً خالدة ، بل وكلُّ نغمةٍ تراثية هي جزءٌ من فسيفساء الحضارة تحكي قصة شعبٍ وتستحضرُ عظمة الماضي في حاضرنا . بالحفاظ على الموسيقى التراثية نحن نحفظُ جوهر ثقافتنا و نعزز شعور الانتماء لجذورنا العريقة . 

في كُلِّ وترٍ من أوتارِ الموسيقى التراثية ، ينبُضُ تاريخٌ لا يُنسى ، وحضارةٌ لا تموت .