“جدلية الاستحقاق في جائزة نوبل: بين الإبداع الأدبي والتأثير السياسي”

تقديم: مثال سليمان

تتجدد النقاشات كل عام مع إعلان الفائزين بجوائز نوبل، وتتركز هذه النقاشات حول مدى استحقاق الأفراد أو الجماعات التي تُمنح الجائزة على الإنجازات في مجالات الأدب، السلام، الطب، والعلوم. كثيراً ما يُثار الجدل حول خيارات اللجنة ومنهجيتها في تحديد من يستحق هذه الجائزة المرموقة. في هذه المقالة، سنتناول هذا الجدل من خلال استعراض الإشكاليات المرتبطة بتقييم الجدارة الأدبية والعلمية، ودور السياسة والمفاهيم الثقافية في تحديد الفائزين.

1. إشكالية الجدارة الأدبية:

الجائزة في فرع الأدب تعد أكثر الفروع إثارة للجدل، ربما لأنها تستند إلى قيم أدبية يصعب تحديدها أو قياسها بشكل موضوعي مقارنة بجوائز أخرى مثل الطب أو الكيمياء. كيف يمكننا، على سبيل المثال، تقييم الشعر مقابل الرواية؟ أو تقييم الأدب القومي الضيق مقابل الأدب العالمي الواسع؟

هناك من يرى أن لجنة نوبل تتبع في تقييماتها معايير غامضة، ويُتهم أعضاؤها أحياناً بأنهم يفضلون اتجاهات أدبية أو فلسفية معينة على حساب اتجاهات أخرى. مثلاً، وُجهت انتقادات للجنة نوبل عندما مُنحت الجائزة لشاعر مثل “بوب ديلان”، الذي اعتبره البعض لا يرتقي لمستوى الأدباء التقليديين من حيث العمق والابتكار الأدبي، ولكن اللجنة دافعت عن قرارها بناءً على تأثيره الثقافي العميق.

هنا تبرز التساؤلات حول: هل الجائزة تُمنح لمن يبدع في فن الكتابة الأدبية فقط أم يجب أن يكون المبدع مؤثراً في مجتمعه وثقافته؟ هذه النقطة هي محور الجدل حول مفهوم “الجدارة الأدبية”، إذ يرى البعض أن التأثير الثقافي والاجتماعي للأديب قد يكون عاملاً مضافاً يجب أن يؤخذ في الاعتبار.

2. المعايير الثقافية والهوية:

إحدى الإشكاليات الكبيرة التي تصاحب منح جائزة نوبل في الأدب هي الهوية الثقافية للفائزين. في بعض الحالات، يبدو أن اختيارات اللجنة منحازة إلى الأدب الغربي، وقد وُجهت انتقادات متعددة على مدار السنين بخصوص غياب أو ندرة أسماء من خارج هذا الإطار الثقافي. في السنوات الأخيرة، حاولت اللجنة التوازن من خلال منح الجائزة لكُتاب من مناطق غير غربية، مثل “عبد الرزاق قرنح” في 2021، وهو كاتب من أصول زنجبارية يعيش في بريطانيا، ولكن يبقى السؤال حول إذا ما كانت هذه الخيارات ناتجة عن تأثيرات سياسية، أم أنها تمثل إعادة نظر موضوعية في الأدب العالمي.

الأدب من مناطق كإفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية كثيراً ما يُعتبر ضحية للتجاهل أو التقييم غير المنصف، نظراً للاختلافات اللغوية والثقافية، فضلاً عن قلة الترجمات التي تصل إلى القارئ الغربي. هذا الأمر يطرح تساؤلات حول مدى قدرة لجنة نوبل على الاطلاع والتفاعل مع هذه الآداب بشكل جدي، في ظل هيمنة التقاليد الأوروبية على القرارات الأدبية.

3. التأثير السياسي والتوجهات الفكرية:

لا يمكن إنكار أن جوائز نوبل في الأدب وغيرها من الفروع تتأثر أحياناً بالسياسات العالمية أو بالتوجهات الفكرية الراهنة. في مجال الأدب، يُثار هذا النقاش عندما يتضح أن الاختيارات ليست مبنية فقط على الإبداع الأدبي، بل قد تحمل رسائل سياسية. على سبيل المثال، منحت الجائزة لكُتاب مثل “ألكسندر سولجينتسين” و”أورهان باموق”، اللذين عُرفا بمواقعهما المناهضة لأنظمة سياسية معينة، مما أثار الجدل حول مدى انحياز اللجنة للكتّاب الذين يعبرون عن توجهات سياسية متوافقة مع الغرب.

عندما تتحول جائزة نوبل إلى منصة للتعبير عن قضايا حقوق الإنسان أو السياسة، يواجه الأدب خطر أن يُختزل إلى وسيلة سياسية بدلاً من أن يُحتفى به كإبداع إنساني مستقل عن السياق السياسي. هذا المأزق يثير النقاش حول ما إذا كانت اللجنة بحاجة إلى إعادة التفكير في معاييرها بحيث لا يتم تسييس الجائزة، بل تبقى محض إبداعية وأدبية.

4. التناقضات في الجوائز العلمية:

إذا كان الجدل حول الجوائز الأدبية يرتكز على اختلاف التقييمات الذوقية، فإن الجوائز العلمية تثير تساؤلات حول الموضوعية والتوقيت. في مجالات مثل الطب أو الفيزياء، يعتمد اختيار الفائزين على إنجازات ملموسة وقابلة للقياس، ومع ذلك، فإن الجدال يبرز حول توقيت الاعتراف بهذه الإنجازات. فهناك اكتشافات علمية تستحق الجائزة، ولكن لا يتم الاعتراف بها إلا بعد مرور سنوات طويلة.

هذا التأخير يثير سؤالاً حول مدى دقة العملية، حيث يمكن لبعض العلماء الذين يستحقون الجائزة ألا يحصلوا عليها لأن تأثير اكتشافاتهم لم يُلاحظ إلا بعد وفاتهم. كما أن هناك اكتشافات تُنسَب أحياناً لأفراد أو مجموعات، في حين أن الإنجازات العلمية غالباً ما تكون نتيجة جهود فرق كبيرة.

5. الاختلافات بين توقعات الجمهور وقرارات اللجنة:

من بين أهم الإشكاليات التي تواجه جائزة نوبل هي الفجوة بين توقعات الجمهور وقرارات اللجنة. الجمهور يميل أحياناً إلى تفضيل شخصيات أو كتاب شُهرتهم الإعلامية أو الأدبية طاغية، ولكن اللجنة تختار بناءً على اعتبارات تراها أكثر عمقاً. هذا التباين يثير التساؤل حول ما إذا كانت اللجنة تفهم تماماً ما يتوقعه الجمهور من جائزة نوبل.

على سبيل المثال، عندما لم تُمنح الجائزة لعمالقة مثل “تولستوي” و”جيمس جويس” أو “بورخيس”، كان هناك شعور بالاستياء من جمهور الأدب. هذا يثير السؤال: هل يجب أن تأخذ اللجنة في الحسبان تلك الأسماء الكبيرة التي شكلت تحولاً ثقافياً وأدبياً؟

6. التوازن بين الشهرة والمستحقين المجهولين:

إحدى النقاط التي تثير الاهتمام هي أن بعض الفائزين بالجائزة يكونون غير معروفين لدى الجمهور العالمي. هذا يحدث في الأدب خصوصاً عندما تُمنح الجائزة لكتّاب من مناطق أو ثقافات لم تحظَ بالكثير من التغطية الإعلامية. بينما يرحب البعض بهذا الأمر كفرصة للتعرف على أصوات جديدة، يراه آخرون بمثابة قرار “مفاجئ” قد يفقد الجائزة جزءاً من بريقها إذا لم يرتبط اسم الفائزين بقراءة واسعة مسبقاً.

هذه المعضلة بين إعطاء الجائزة لشخصية عالمية لها تأثير واضح وبين منحها لكاتب غير معروف عالميًا ولكن له أهمية في مجاله أو منطقته تبقى تحديًا مستمرًا للجنة.

7. إشكالية نوبل بين الإبداع والسياسة:

يبقى الجدل حول جائزة نوبل أحد النقاشات الحيوية التي تشغل المثقفين، العلماء، والسياسيين كل عام. في نهاية المطاف، لا يمكن إنكار أن جائزة نوبل تمثل تكريماً عظيماً للأفراد الذين ساهموا في تطوير البشرية على مختلف الأصعدة، ولكن تظل هناك حاجة ماسة لإعادة التفكير في بعض المعايير وآليات الاختيار. الجدارة ليست مسألة مطلقة يمكن قياسها بطريقة صارمة، ولذا فإن الجوائز الثقافية مثل نوبل ستظل دائماً ساحة للمناقشات والتساؤلات المفتوحة.

قد يكون الحل الأمثل هو إعادة النظر في عملية الترشيح والاختيار، بحيث تُتاح فرص أكبر للأدباء والمفكرين من خارج الإطار الثقافي السائد، مع الحفاظ على توازن بين الاعتراف بالتأثير الأدبي والإبداع الشخصي. في النهاية، الجدل حول من يستحق نوبل سيبقى إشارة إلى أهمية الإبداع الإنساني وتعقيداته.