
مازالت هناك فسحة نور رغم عتمة الحرب والقتل الهمجي
يسلط الكاتب الفلسطيني المبدع: خيري حمدان في روايته: “رمال” الضوء على الأحداث في غزة من خلال تماهيه مع بطله “محمود الحانوتي” الذي يرقد في إحدى مستشفيات غزة في غيبوبة إثر تعرضه لطلقات نارية مجهولة المصدر أدت إى انهيار جهاز الأعصاب، والحركة، لديه، فأحسسنا بأنه يعبّر عن أحوالنا في الوقت الراهن مقعدون مغيّبون لاحول لنا ولا قوّة تجاه الأحداث الدامية وحرب الإبادة التي تجري في مدينة غزة وكأن كل حرب تعيدنا إلى مربع الظل الأول وكأن شيئاً لم يكن: ” العيش في اللامنطق وعدم القدرة على دفن أنفسنا أو الانبعاث ثانية في معترك الحياة”على حد قول الكاتب.
يستعرض محمود طفولته من خلال رؤيا له أثناء غيبوبته وكيف كان بطل الطائرات الورقية، ثم مصادفته لجنود الاحتلال المسلحين الذين هاجموه وطلبوا منه العودة إلى بيته.
ثم إنه رغم غيبوبته الطويلة كان متشبثاً بالأمل وكان يطلب من الجميع المحافظة على سلامة أجسادهم،
كان يسمع حديث الشاب الذي كان في سرير بقرب سريره والمصاب بطلقة في رجله بحادثة أخذ بالثأر. حكى لنا محمود قصة مدير المدرسة الذي كان أيضاً في السرير المجاور لسريره والذي أحبّ فتاة كان والدها تاجر ذهب وكانت الفتاة تبادله العاطفة لكن الأب أوعز بقتله لان ابنته لم توافق على الزواج بغيره، وهنا ذكرني الكاتب برواية الإخوة كارامازوف للكاتب الروسي: ديستويفسكي من حيث مشاعر الكراهية والحقد لدى البشر.
سمع محمود حديث أمه معه والتي انتبهت للدمعة في عينه فطلبت من الأطباء في المستشفى عدم قطع الإنعاش عنه، كما سمع حديث أخته ريم مع الأطباء بشأن تقليبه على جنبيه. تعاطف محمود في غيبوبته مع الأم والأب الذين زاروا ابنهم الطفل الذي وقع على قضيب مدبب وكانت معهم ابنتهم التي أعطتنا صورة الأخت النمطية الطيبة والحنون والتي تحمل همّ أخيها وتخاف عليه وهنا يدخل الكاتب إلى أعماق النفس الإنسانية الفلسطينية التي تؤْثِر الذكور على الإناث:
“الحقيقة أن أخته هي التي استرعت انتباهي ذكرتني هذه الفتاة بإناث بيتنا وجاراتنا، هناك شيء مشترك بين نساء المشرق، كأنهن جبلن على التحنان والحذب والعطف تجدهن في مقدمة الحضور حين تقع المصيبة، يعانقن الأخ، والجارة والأخت، ويذرفن الدمع بسخاء”.
ذَكّرني الكاتب برواية الأم لمكسيم غوركي في قوله:
“حضرت أمي لزيارتي في مرقدي الذي سيطول من دون أدنى شك لسنوات جلست على حافة السرير لعشر ساعات متواصلة”.
شعرت بالمحبة الكبيرة ونُبْل العاطفة الصادقة التي يكنّها محمود لشباب غزة إذ أنه وهو في غيبوبته يشعر بالأسى بسبب تعاطي بعض الشباب الغزاويين لما يسمى: “حبوب السعادة” التي تزهق أرواحهم.
استعرض البطل محمود في غيبوبته شريطاً سينمائياً لعدّة أشخاص منهم صورة خطيبته سامية التي كانت تأتي لزيارته في المستشفى، وصورة الرجل الأرمل الذي استشهدت زوجته وابنته بقذيفة والذي أتى إلى المستشفى بسبب مرض بالقلب، وقد حكى لمحمود المصاب بغيبوبة عن وقوعه بحب أخته ريم، وعن الممرض حسن المتفاني في خدمة محمود الحانوتي.
ثم شرح لنا محمود بأن جدّه السابع لُقّب بالحانوتي إثر مشاركته في القتال مع قوات المحور وقيامه بدفن جثث قتلى جنود المحور بالعشرات.
أبدع الكاتب في وصف مرحلة الغيبوبة لدى بطل روايته فأقنعني بحقيقة وجوده وتفاعلتُ مع الرواية بحيث كنت أبكي على محمود وأشتعل حماساً عندما أشعر أن هناك تحسناً بحالته.
عندما بدأت بقراءة رواية ” رمال” أحسست أنها مثل سيمفونية بدأت واستمرت بإيقاع بطيء وباستخدام ألحان تبعث على الألم والأمل، واليأس والرجاء، والقوة والضعف حتى خروج محمود من المستشفى، وكأن مرحلة الغيبوبة الطويلة كانت فاتحة خير لصقل مواهبه الكتابية وإبداعاته. بعد تعافي البطل محمود من غيبوبته تسارع إيقاع السيمفونية وازداد ضجة ولهيباً وحماساً فكأن طبولاً دقت وبوقاً نُفِخ كما لوكان ينبئ عن أحداث سعيدة وحزينة، وهذا بالفعل ماحدث إذ كانت أول فسحة نور في هذه الرواية عندما حرّك محمود إصبعه فقرّر الأطباء تخريجه من المستشفى إلى منزل أهله ذاك كان اليوم الموعود بعد مكوثه فترة طويلة في الغيبوبة، حيث يصف الكاتب استقباله في منزل أهله: “ملأت رائحة القهوة أرجاء المنزل، القهوة السادة التي تحسن أمي غليها على نار هادئة، لتقدمها ساخنة عذبة لكل من يأتي للمباركة بمناسبة عودتي إلى المنزل”.
ثم يصف محمود مشاعره تجاه أبيه بقوله:
” هو العصا المتينة التي تسندني عندما أتعثر، أو أجد نفسي على شفا هاوية”.
وأما فسحة النور الثانية في هذه الرواية فهي عندما تزوج محمود من حبيبته وخطيبته السابقة سامية التي كانت قد تزوجت من رجل آخر بعدما طالت غيبوبته ثم ترمّلت. يواصل محمود أثناء ذلك كتاباته عن الأوضاع في غزة التي تتفاقم يوماً بعد يوم، وعندما تحمل سامية يشعر محمود بالخوف عليها وعلى الجنين فيقنعها بالسفر إلى مصر مع صديقه سمير الذي أعطاه أحد الكتب التي ألفها بصفته رئيس تحرير في صحيفة المشرق العربي في مصر كي يضمن لها ولابنه القادم حياة مستقرّة من ريع كتابه.
الرواية مشحونة بطاقة تنبثق منها مضامين لا تتكشف إلا بتفاعلنا مع أحداثها وهذا هو جوهر الإبداع الإنساني حيث يتجلى الألم والحزن في وصف الكاتب للمفارقة التي تتضح معالمها في فلسطين فيشبّه الكاتب مدينة غزة كأكبر معتقل على وجه الأرض “على لسان أبيه”
ويحكي الكاتب عن “الضفة الأخرى” ويقصد ماوراء السور حيث يقبع المحتل الغاصب “فهي خالية من كاميرات الرقابة والإشارات الضوئية لا حواجز عسكرية ولا معابر”.
كما يذكّرني الكاتب برواية مذلون مهانون ل ديستوفسكي في قول والده:
“لا توجد ضمانات لفجر جديد في المنظور القريب على الأقل، كل منا معرض للفناء لأتفه الأسباب السماء انقلبت علينا، وتخفي في سحبها رسائل موت، والاحتضار أصعب من الفناء الاحتضار عملية طويلة، تبدو الثواني في ثناياها غير متناهية، والموت الفجائي رحمة”
وفي قول الكاتب:
“وأما الرمال فهي رمز لتسرّب أعمار الغزيين يحدث قصف وحشي وفي غمضة عين يموت مئات من النساء الرجال والأطفال والبعض الآخر يموت ببطئ تحت الانقاض”. وهذا برأيي أحد أسباب اختيار الكاتب لعنوان روايته”رمال”
أما ريم أخت محمود الحانوتي فهي رمز من رموز النضال والمقاومة ضد المحتل الغاصب، الأنثى الفلسطينية التي لايتبقى لها وقت للاهتمام بمظهرها لأن هناك أولويات في حياتها ألا وهي الاهتمام بأهلها والالتحاق بالمقاومة. تتزوج ريم من زميلها في المقاومة ثم سرعانما تترمل.
تخللت الرواية أحداث جلل ألا وهي وفاة والدة محمود، ثم تعاقب القصف على غزة بحيث يستشهد والد محمود تحت أنقاض منزله.
ترك لنا الكاتب المبدع نهاية مفتوحة للرواية لأن الأحداث التي ألهمته كتابة الرواية مازالت تجري في غزة:
“حل صمت ثقيل، ثم .. اقتربت المسيرة منّا، هذه المرة على ارتفاع متدنّي شاهدنا أجهزتها الفنية، وتقنيات القتل المحملة في باطنها، وكاميرات الرصد في رحمها”
تحكي الرواية عن سلسلة نضال مرير ضد الاحتلال الاسرائيلي الذي أحال حياة أهل غزة إلى جحيم لايطاق لكنهم مازالوا صامدين لأن الأرض أرضهم. يتضح لنا من كل ماسلف أن الكاتب الدكتور: خيري حمدان
وضع بصمته الخاصة التي تميّزه عن غيره في التفكير الإبداعي.
أخيراً ورغم حرب الإبادة التي يشنها العدو الإسرائيلي لدينا أمل كبير بانتصار الحق على الباطل وكما قال الشاعر أبو القاسم الشابي:
إذا الشّعْبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَـاةَ
فــلا بــدّ أن يســتجيب القــدرْ
ولا بُـدَّ لِلَّيـْلِ أنْ يَنْجَلِــي
وَلا بُدَّ للقَيْدِ أَنْ يَـنْكَسِـر