بروين سعيد

هدير محركات الطائرة صمّ أذني وأصابها بالأذى، وزاد من ألم رأسي، مما فاقم الصداع الذي أعاني منه منذ يومين شاقّين.
أصبحت أشغل نفسي بالقراءة لأقضي وقتي الطويل في رحلتي إلى حلب. صفحة، صفحتان… ثم تتلاشى الكلمات لتظهر مكانها صور وأحداث، وقائع أبطالها حقيقيون يعيشون هناك في الحسكة، مدينتي التي أحبها وأفضلها على كل المدن.
مكالمة شقيقتي التي طلبت مني الحضور بسرعة بسبب تدهور صحة الوالد، أثارت قلقي وأشعلت في نفسي الحنين. تمنيت أن ألقاه وأضمه إلى صدري، وأقبّل وجنتيه، ليقبل هو رأسي كما كان يفعل دوماً.
أجل! كان يشتاق إليّ ويهتف باسمي إن تأخرت عليهم. كان يجد فيّ وفي أولادي أنساً كبيراً، فقد كان أبي ملهمي ومعلمي الأول في هذه الحياة الصاخبة. لا تزال كلماته محفورة في ذاكرتي، تلك التي قالها ذات سهرة بحضور الأهل والأحباب: “ثقتي بابنتي كبيرة، فوالله لو دخلت معسكراً من الرجال، لا أخاف عليها.”
هذه الجملة منحتني قوةً وصموداً، وعزّزت ثقتي بنفسي منذ صباي وحتى هذه اللحظة من عمري.
سنوات طويلة قضيناها في الغربة، كانت قاسية، لكنها زادت محبتنا وشوقنا للأهل. الغربة لم تكن خياراً سهلاً، بل كانت قراراً مريراً اقترحه والدي، الذي أصرّ على أن أصطحب عائلتي إلى الغرب. كنت أعارض بشدة فكرة ترك الوطن، لكن حين أصرّ، شعرت بألمه ومعاناته التي تأكدت منها لاحقاً عبر حديث الوالدة.
ذات يوم، أخبرتني الوالدة، وعيناها تغرورقان بالدموع: “اذهبي إليه، يا ابنتي، وهدّئي من روعه. فقد جنّ جنونه لا محالة، يكلم نفسه قائلاً: (ماذا سأفعل بعد رحيل بروين وأولادها؟ ستفرغ الحسكة بدونها، لن أحتمل غيابها).”
كان والدي قد تعوّد على وجودي في الأعوام الأخيرة، حيث كنت أزورهم مراراً. كنت أجده غالباً يقرأ كتاباً أو جريدة، وما إن أدخل حتى يضعهما جانباً ليحتفي بقدومي. كان يطلب من الوالدة إعداد القهوة مع الكعك اللذيذ، وننخرط في الأحاديث التي كانت لا تنتهي، وكانت مليئة بالقصص الممتعة والشيقة التي لم أملّ منها يوماً.
وكيف لي أن أنسى تصريحاته التي سمعتها منه مراراً بأنه يحب جميع بناته، ولكن حبه لي كان مختلفاً. لهذا، يا أبي الغالي، أفتقدك بشدة تفوق تصور البشر.
عندما وصلت إلى مطار حلب، استقبلني أحد أبناء عمي.
غريب! لماذا جاء هو وليس أحد إخوتي؟
بدأت المخاوف والشكوك تجتاحني، وزاد توتري وانفعالي. توجهت إليه على الفور وسألته بقلق:
– أصدقني القول، هل حالته خطيرة؟
أجابني بصوت يخنقه الحزن:
– ساءت حالته منذ أيام، فاقترح الأطباء نقله إلى المستشفى المقابل للبيت ليحظى برعاية تامة من طاقم طبي كلهم معارف وأقرباء. حتى الممرضات يعتنين به بصدق. آه، وعلى فكرة، كلما جاءت ابنة عمنا فلك، يبتسم لها ويداعب شعرها بحنان ظناً منه أنها أنتِ يا بروين.
عندها، لم أتمالك نفسي، فانخرطت في بكاء شديد، شعرت بوخزات حادة في صدري، وكاد رأسي ينفجر من شدة الضغط.
لكن لا… لن أستسلم.
أخذت نفساً عميقاً وقلت لنفسي: اهدئي وتشجعي يا بروين، فقد اقتربت ساعة اللقاء.
وها هي الحسكة الغالية تلوح في الأفق.
وها هي طلعة العزيزية، بحوض مياهها الشامخ.
وها قد اقتربنا من المستشفى.
لكن شيئاً غريباً كان بانتظاري…
خيمة وكراسٍ؟!
خيمة عزاء؟!
نعم، إنها خيمة عزاء…
لم أعد أشعر بشيء.
لم أعد أدري ما يدور حولي.
توقف الزمن.
اسودت الدنيا من حولي.
ولم أعد أرى شيئاً…