مثال سليمان

بين الضوء والظل ثمّة روحٍ متثاقلة، بين يقظةٍ أرهقها السهر ونومٍ لا يكتمل. القمر هناك، معلقٌ كجرحٍ مفتوح في خاصرة السماء، يسكب ضوءه البارد على وجه البسيطة، يحوّلها إلى أطيافٍ باهتة و ذكرياتٍ تتراقص حتى الحافة ثم تهوي في العدم. الليل، تلك المرآة الهشة، أعبرها فلا أجدني، أبحث عن صوتي فلا أسمع سوى رجع صدىً قديم، كأنّ أحدهم كان هنا ثم اختفى، وكأنني لم أكن يوماً أنا.
وأنت، يا عابر الفصول الباردة، لا تحاول أن تعيد ترتيب الفوضى، لا تطلق على هذا العبث اسم الحب، الحب نارٌ لا لعبة، قدرٌ و تيهٌ. دع القمر يتغلغل في رأسي كما يشاء، ليحرك أنهاراً راكدة ويحرّض الغيوم على المطر. دع الصمت يصدح بالشعر واتركني لهذا الضوء المسكون بالهذيان، لهذا البرد الذي لا يدفأ.
نعم، اللغة خيانةٌ أخرى، والأسماء قيودٌ واهية، فلا تضيّق المعنى بمحاولة تفسيره، ولا تغمس الحقيقة في المداد. أعرف أنك تعرف، كما أعرف، أنّ الأنين متربصٌ بنا، مختبئٌ في الزوايا، في صدوع الوقت، في رعشة الأصابع وهي تلامس الفراغ. لمّا يأتي الحب، يأتي متأخراً جداً، مثل قطرة مطرٍ على نافذة مغلقة، مثل رسالةٍ تطرق أبواباً مسّها النسيان.
مرةً واحدة فقط يتسع القلب للحب، لهذا تبدو غريباً، مثل ظلٍّ فقد صاحبه، مثل صدىً يبحث عن صوتٍ ينتمي إليه. أمّا الياسمينة في الشرفة، تواصل عبثها، تنثر عطرها في ليلٍ غدق، كأنّ العطر يكفي ليعيد ما ضاع، كما لو أن رائحة الأشياء تُبقيها حية. لكنني أعرف، وأنت تعرف، أن الأزهار لا تحفظ الوعود، وأن العبير لا يغيّر المصير. أغمس قدميّ في الحصى، لا في العطر، فالأرض يا صديقي وفيةٌ للمطر، تحفظ الذاكرة، إن خذلها الندى.
وما جدوى المعرفة، إن كنا لا نملك من التغيير شأنا؟ تحت هذا القمر الأزرق، لا شيء ينتظرنا، لا وعدٌ يتفتح على أغصان الياسمين، لا دفءٌ يذيب هذا الجليد المتراكم فوق القلب. هناك، في مكانٍ ما، تركنا أنفسنا القديمة، ولم نعد. هناك، في زمنٍ آخر، كان للحب اسمٌ لم يعد يُنطق، وملامح فقدناها.
والجب الذي وقعنا فيه ذات وهمٍ لم يكن أنا، ولم يكن أنت، كان صدى حلمٍ دفين، صورةً عابرة تلاشت مع أول ارتعاشة ريح. والآن، لم يعد يهمّني أن أبحث عنه، ولا يهمّك. أدركنا، أخيراً، كم كان واهياً أن نلعب لعبة الحب، كم كان زائفاً أن نمنحه أسماءً لا تشبهه.
ومع ذلك، ما زالت القبلات القديمة تهمس في الفراغ، وما زالت الأذرع المنسية تمتدّ نحو الغياب. ربما لأن الحكايا تأبى النهايات و الذاكرة، رغم خيانتها، تأبى أن تمحو ما لا يجب أن يُمحى. فدع القلب يحلم، ولو كذبًا، بآذارٍ لا يرحل، ودع ما أحببناه يبقى، ولو كأثرٍ على زجاج نافذةٍ أغلقتها الريح.