غبارُ البوح

كاوا رشيد

في مضارب البؤس، في أزقةٍ ضيقةٍ مُعبَّدةٍ بالقهر، تحمل على عاتقها وجع العابرين، وتفوح منها رائحةُ الأرضِ المُبلَّلةِ بدموع الكآبة.
في حيٍّ منسيٍّ على أطرافِ مدينةٍ نائمةٍ، يسكنها البؤساء، وكأنَّ فيكتور هوغو استلهم أحداثَ روايته من تراجيديات ذلك الحي، أولئك الذين تقاسموا مصيرَ جان فالجان.
يمضي العمرُ على دروبِ الحرمانِ المُتعرِّجة، حيث تتقاطعُ قسوةُ الفقرِ مع براءةِ الطفولةِ على صفيحٍ ساخن.
هناك، في تلك الأزقةِ المُغيَّبةِ خلف الأفق، دُفنت بقايا طفولةٍ مُنهَكةٍ لم تعرف من الحياةِ سوى الألم.

على مقربةٍ من منحدرٍ شاهقٍ يُطلُّ على وادٍ كئيب، حيث يغطي غبارُ البوحِ كلَّ الكلمات، ولا يجرؤ أحدٌ على الإصغاء إليها،
يرقدُ كيانٌ صغيرٌ، كسيرُ القلب، مسلوبُ الهويةِ عند مفترقِ طريقِ الموت، ذلك الطريقُ الذي كان يصلُ إلى القرى المنسية في أقصى الشمال. طريقٌ أشبهُ بخيطٍ واهنٍ، يربطُ بين بؤسِ الموت وفرحِ الحياة، فرحٌ مُعلَّقٌ على أعتابِ وطنٍ ممزق.

في ملعب الحيِّ الترابي، كانت الضحكاتُ تتعالى رغم قسوةِ الأرضِ تحتَ أقدامه، ربما لأنها كانت ألينَ من قسوةِ الحياةِ عليه. رغم غصَّتها، تحاولُ مقاومةَ خذلانِ الأقدار. كان يركلُ كرته الهوائيةَ بركلاتٍ أقوى من ضرباتِ سياطِ القدر، وملامحُ وجهه المُثقَلةُ بالبؤسِ ترسم خرائطَ الوجع، وعيناهُ غارقتانِ في رمادِ الربيع، حيثُ لم يعرف يومًا بهجةَ الألوان.

“في أزقةٍ ضيقة، بين جدرانٍ متآكلةٍ شاهدةٍ على أسرارٍ لم يُفصح عنها، بقيتْ كتاريخٍ لم يُروَ، مطويَّةً في أعماق الزمن. وأبوابٍ خشبيةٍ نحتَ فيها الدهرُ حكايات الألم التي لا تنتهي؛ هناك، عند زاوية النسيان، على أطلال بيته القديم المندثر تحت غبار الذكريات، عادَ مرتابًا، بعينين واجلتين تحدِّقان في الفراغ، يبحث عن بصيصِ أملٍ يحرره من سجن الماضي”.

لم يتذكره أحدٌ من البؤساء الجدد الذين سكنوا تلك الأزقة، حتى الطرقات باتت اليوم غريبةً عنه، وكأنَّ الأرض نفسها قد نسيت خطواته. الجميع نكثوا العهد ورحلوا دون عناقٍ أو حتى نظرةِ وداعٍ.
نُسِيَ أنه كان يومًا ينتمي إلى هذا المكان، قبل أن تمزقه الغربة وتأخذه بعيدًا، قبل أن يسلك ذلك الطريق الطويل نحو الموت، حيثُ اللاعودة.

فجأة، أحاطَ بهِ ظلُّ أبيهِ الراحل، رغم غيابه الطويل، فتملَّكه شعورٌ عميقٌ بالحاجةِ إلى الاحتواء.
وقف هناك، مذهولًا من وطأة الذكريات التي ظلت تلاحقه منذ أن غادر، منذ أن انطلق في رحلتهِ الخرافية. أدرك، لكن بعد فوات الأوان، أن الجميع قد رحل من بعده، وأن الأماكن التي كانت مأهولةً بالضحكاتِ والأحلام، باتت اليوم خاوية، لا يحرسها سوى الغياب الذي يعبث بصوته في أزقتها المهجورة.

هبَّت ريحٌ حاملةً معها عبقَ شعر أمه، وأريجَ الزهور التي كانت مرسومةً على منديلها، كأنها تبعث في روحه صدى النوستالجيا.
هبَّ نسيمٌ يحمل في خباياه ندى تلك الزهور، ذاك الندى الذي بلَّلَ عينَيهِ وأطفأَ الشرارةَ الأخيرة التي كانت تتوهَّج فيهما، كأنه خسوفٌ في السماء يُحجَبُ نورُ الشمس فيه، فتدخل الأرضُ إلى الأبدِ في ظلامٍ دامس.

ثم استفاق بغتةً في منتصفِ الليلِ، مفزوعًا من كابوسهِ المعتاد الذي يطاردهُ بلا هوادةٍ، على أنينِ ذلك الطفل الذي لم يكبر في أعماقه، ممزوجًا بنحيبِ أمهِ على أبيه الذي لا يفارقهُ؛ نحيبٌ لن يفارق مسمعهُ حتى الممات.

اترك ردّاً