ديار أحمد ملا

ذاكرة المعاناة المنسية عبر الحروب
الطفولة التي لا تنمو في ظل الحروب
في أعالي الجبال، في الوديان التي شهدت صرخات الألم قبل أغاني الفرح، في القرى التي سُوّيت بالأرض مرارًا، وفي المدن التي صار أطفالها يعرفون صوت القصف أكثر من صوت الضحك، هناك حيث ينبت الألم كعشب برّي، وُلد أطفال الكورد في عالم لا يمنحهم سوى الحرب والمنفى. هؤلاء الأطفال لم يعرفوا ما معنى أن يكون للطفولة أمان، ولم يختبروا من الوطن سوى الرحيل القسري، ولم يحفظوا من اللغة سوى كلمات الألم.
عبر العقود، ظل أطفال الكورد ضحايا لصراعات لم يكونوا طرفًا فيها، ضحايا لحروب قسرية، لسياسات ترفض الاعتراف بوجودهم، لعمليات تهجير وقصف واجتثاث. جيلٌ بعد جيل، تُعاد المأساة ذاتها، وكأن القدر كتب عليهم أن يكونوا أبناء النزوح، أن يُولدوا في ملاجئ اللاجئين، أن يكبروا على قصص المذابح، وأن يناموا على حلم وطن لا تُمحى حدوده من الخرائط فقط، بل من الذاكرة أيضًا.
حين تكون البراءة أولى ضحايا القصف والنفي
يقال إن الحرب لا تفرق بين صغير وكبير، لكن في كردستان، كانت الحرب دائمًا تسبق الطفولة. في كل مرة تُدك فيها قرية كوردية، أو يُجبر أهلها على الرحيل، أو تُمحى أسماء أطفالها من السجلات، يكون هناك صدى لصرخات لم يسمعها أحد.
عبر التاريخ، شهد أطفال الكورد مجازر وعمليات إبادة ممنهجة، من حلبجة إلى الأنفال، ومن حملات التهجير القسري في تركيا وإيران وسوريا إلى قصف القرى الكوردية في العراق، حيث كان الأطفال هم الوجوه الأضعف في صورة الدمار. كم من طفل وُلد ليجد نفسه يتنفس الغازات السامة بدلًا من هواء الحياة؟ وكم من طفل لم يعرف الوطن إلا كصورة ممزقة في خيام اللاجئين؟
في ربيع عام 1988، حينما قُصفت حلبجة بالأسلحة الكيميائية، لم يكن الأطفال هناك يحلمون سوى بلعبة جديدة أو حلوى العيد، لكن بدلًا من ذلك، امتلأت رئاتهم برائحة الموت، وتوقفت قلوبهم الصغيرة قبل أن تعرف معنى الحب والأمان. أكثر من 5000 شخص، بينهم مئات الأطفال، قضوا في دقائق معدودة، بينما بقيت صرخاتهم عالقة في هواء المدينة، كأنها ترفض أن تُمحى من ذاكرة الزمن.
أطفال المنفى: جيلٌ وُلد بين المخيمات والأسلاك الشائكة
ليس كل الأطفال يُولدون في وطنهم، فأطفال الكورد، في كثير من الأحيان، وُلدوا في المخيمات، حيث الخيام بدل البيوت، والبطانيات البالية بدل الأسرة، والأمل المقطوع بدل الأحلام.
• في تركيا، وُلد أطفال كثر في الجبال، حيث فرّ آباؤهم من القمع، ليعيشوا سنواتهم الأولى بين الكهوف والخوف المستمر من الطائرات التي لا تفرق بين مقاوم ومدني.
• في العراق، بعد عمليات الأنفال، كبر جيلٌ كامل من الأطفال الكورد في مخيمات اللاجئين، بينما كان آباؤهم يُنفون إلى الصحراء أو يُقتلون بدمٍ بارد.
• في سوريا، بعد سنوات من التهجير وسلب الجنسية، عاش أطفال كثر بلا هوية، بلا مدارس، بلا أمل، حيث كبروا دون أن يكون لديهم حتى اعتراف رسمي بوجودهم.
• في إيران، عانى أطفال المناطق الكوردية من الحرمان من التعليم بلغتهم الأم، وكبروا في ظل القمع الأمني الذي منع حتى أحلامهم الصغيرة من أن تكبر معهم.
إن جيل المنفى هذا، لم يفقد فقط حقه في الطفولة، بل فُرض عليه أن يعيش بين فصول منسيّة من التاريخ، حيث لا يتم ذكر معاناتهم في نشرات الأخبار، ولا تصل أصواتهم إلى المجتمع الدولي إلا حينما تصبح القضية كارثة يصعب إخفاؤها.
الطفولة المفقودة بين النضال والرصاص
حين تُغلق كل الأبواب أمام الطفل، وحين يُحرم من الدراسة، وحين يرى أهله يُقتلون أمامه، وحين يصبح البيت ذكرى والحياة طريقًا للهرب، يصبح الطفل جزءًا من النضال، حتى قبل أن يدرك معناه.
كم من طفل كُردي وجد نفسه وسط المعارك، لا لأنه اختار ذلك، بل لأنه لم يُمنح خيارًا آخر؟
كم من فتاة كُردية اضطرت إلى حمل السلاح بدلًا من حمل الكتاب، لأنها أدركت أن العالم لم يمنحها إلا هذا الطريق؟
كم من طفل تعلم معنى الحرب قبل أن يتعلم حروف لغته الأم؟
هؤلاء الأطفال، الذين لم يُمنحوا فرصة أن يكونوا مجرد أطفال، أصبحوا جزءًا من التاريخ دون أن يُسألوا عن رأيهم. وجدوا أنفسهم بين قسوة الأنظمة وقسوة المقاومة، بين حلم الحياة وواقع الموت، بين حقهم في الأمل وواجبهم في البقاء.
ما بعد الحرب: هل من مكان للحلم؟
حين تنتهي الحرب، حين يهدأ القصف، حين تنخفض أصوات الرصاص، هل يعود الأطفال إلى طفولتهم؟
الحقيقة أن الحرب لا تنتهي عند توقف القتال، فبالنسبة للأطفال، تبقى الحرب داخلهم، تترك ندوبًا لا تمحى، وتجعلهم يكبرون بسرعة تفوق أعمارهم.
• في كردستان العراق، رغم الاستقرار النسبي، لا تزال آثار المجازر القديمة تلاحق الأجيال الجديدة، حيث لا تزال القرى تحمل ندوب الماضي.
• في تركيا، لا يزال القمع مستمرًا، ولا يزال الأطفال في المناطق الكوردية يعانون من التمييز في التعليم والفرص. • في سوريا، رغم التغييرات السياسية، لا يزال الأطفال في المخيمات يعانون من الفقر والحرمان، ولا تزال الهوية الكوردية موضع قلق سياسي.
• في إيران، لا يزال الأطفال الكورد يعانون من التهميش والحرمان من حقوقهم الثقافية، في ظل سياسات قمعية مستمرة.
السؤال هنا: كيف يمكن إعادة بناء الطفولة بعد أن دمرتها الحروب؟ كيف يمكن لأطفال كبروا على التهجير والمجازر أن يؤمنوا بالعالم من جديد؟
خاتمة: صرخة بلا صدى؟
إن صرخات أطفال الكورد ليست مجرد قصص تُحكى، إنها نداء للعالم، نداء لا يطلب الشفقة، بل يطلب العدالة. هؤلاء الأطفال، الذين حلموا فقط بأن يكونوا مثل غيرهم، وجدوا أنفسهم في قلب معركة أكبر منهم.
قد لا يكون في وسعنا تغيير الماضي، لكن لا يزال لدينا فرصة لإنقاذ المستقبل. قد لا نتمكن من إعادة الطفولة لمن فقدها، لكن يمكننا أن نمنحها لأولئك الذين لم يولدوا بعد. إن كان هناك شيء واحد يستحق أن يُسمع، فهو صوت الأطفال، لأنه الصوت الوحيد الذي يجب ألا يضيع في ضجيج السياسة والرصاص.
فهل يسمع العالم أخيرًا؟ أم ستبقى صرخاتهم مجرد صدى يتلاشى في التاريخ ..؟