كرّو الكردي بين جناية قطع الطريق وجناية الترجمة

محمود سعيد عيسى

حاولت العقلية العنصرية في سوريا خلال فترة البعث طمس الوجود الكردي من التاريخ والجغرافيا وتذويبه بشتى الوسائل؛ فغيرت أسماء المدن والقرى، وحذفت الإشارات من كتب التاريخ إلى الشعب الكردي، مع منع أي تداول أو نشر للثقافة واللغة الكردية، وعاقبت من يُمسك مُتلبّسًا بمنشور باللغة الكردية أيًا كان محتواه بالسّجن والتّنكيل.

لا شك أن العنصرية البعثية كانت جزءًا أساسيًا من ركائز توطيد سلطة الأسدين في محيط ينظر إلى الانتماءات الدينية والطائفية بأهمية خاصة، إلا أن تلك الإجراءات العنصرية لم تقف عند المستوى الرسمي فحسب، بل تماهى معها فئات عديدة من المجتمع السوري من كتّاب وأشباه باحثين ومترجمين وبائعين وليس انتهاء بعرفاء الصفوف في المدراس الابتدائية والإعدادية والثانوية… إلخ.

من ذلك التماهي مع سياسة الدولة البعثية في طمس الوجود الكردي ما قام به مترجما كتاب (عشائر بدو الفرات 1878) للرحالة البريطانية الليدي آن بلنت ([1]). (1837-1917) Anne Blunt، والذي صدر بنسخته الإنجليزية تحت عنوان: (BEDOUIN TRIBES OF THE EUPHRATES) عن دار (HARBER BROTHER)، نيويورك، عام 1879م، أي بعد عامٍ واحد فقط من رحلتها إلى حوض الفرات، ويمكن تصنيف كتابها ضمن جهود الاستشراق التي انطلقت لدراسة المجتمعات الشرقية لغايات شهد القرن التاسع عشر اندفاعًا متزايدًا من المستشرقين والرّحالة نحو الشّرق ([2]) لغايات عديدة: استعمارية، تبشيرية، تجارية، سياحية، علمية … إلخ، ومع أن تلك الدوافع في مجملها لم تكن بريئة إلا أنها في المحصلة قدّمت خدمة جليلة للمعرفة الإنسانية تتمثل بتسجيل أحوال أعراق الشّرق ودياناته وثقافاته في تلك الحقبة الزمنيّة.

وتَرجم الكتاب إلى العربية كل من: أسعد الفارس، ونضال خضر معيوف، بعنوان (عشائر بدو الفرات) وصدرت الطبعة الأولى عن دار الملاح للطباعة والنشر، في دمشق، عام1991 ([3]).

ويشهد المحققون للسيدة اللّيدي (آن بْلَنْت) بالإنصاف في تقديم صورة العرب في حوض الفرات، كما أنها تذكر بعض الإشارات القليلة للأكراد؛ حيث كان خطّ رحلتها يمر في مناطق بعيدة إلى حد ما عن المناطق الكردية، يتجلّى ذلك بوضوح من خلال خط سير رحلتها على الخريطة الموجودة في الكتاب.

لكن الكتاب – على الرغم من ذلك- لم يخل من بعض الإشارات عن الأكراد ومناطقهم وعاداتهم وعلاقات التحالف والمصاهرة التي تربطهم بالعرب باعتبارهم الجوار البشري الشّمالي لسكّان حوض الفرات العرب.

الإشارات القليلة للأكراد لم يتحملها المترجمان اللذان ادعا في مقدمة الكتاب الأمانة والضبط؛ فقاما بطمسها وتشويهها وإخفائها، على الرغم من التغيير المقصود لمواطن كثيرة في الترجمة والتي تستدعي منهما الاعتذار أو التبرير تصريحًا أو تلميحًا إلا أننا نجد المترجمين – في المقدمة- يتباهيان بشدة الضبط ودقة التحقيق وحسن الفهم:(وبطبيعة الحال تصدينا لمهمة صعبة تهيبها المترجمون قبلنا للحشد الهائل من أسماء الأعلام العشائرية، وأسماء المدن والقرى التي مرّت بها خلال الرحلة في بلاد الشام والفرات ودجلة، إننا نعتقد أن الترجمة لن تكون سليمة بأيدي غير أبناء الفرات ولهذا وفقنا والحمد لله بتحقيق الأماكن والأعلام تحقيقًا دقيقًا، فيندر أن يجد القراء شخصًا في غير اسمه الصحيح).([4])

ولكن لسوء حظ المترجمين وجود النسخة الإنجليزية بطبعتها الأولى مصوّرة تعود للعام 1879 وهي التي اعتمدها المترجمان، ثم تصحيح تلك الترجمة المحرّفة بترجمة عربية أدقّ وأصدق للدكتور أحمد إيبش، 2013، عن دار الكتب الوطنية، الإمارات العربية المتحدة.

من تلك الإشارات القليلة إيرادها قصة قاطع طريق كرديّ معروف بـ (كرّو الكردي CURRO)، و(كرّو: Gurro) بالكردية تعني الذئب ([5])، وقد كان كرّو قاطع طريق مسجونًا في سجن حلب ومشهور بالشّجاعة والشّهامة والنبل، وتحول إلى قطع الطريق ثأرًا لظلم لحق به، ينهب من موظفي الدولة والأغنياء ويساعد الفقراء والمحتاجين، وقد بلغت أخباره ومغامراته (آنْ بلنت) فحاولت أن تراه أثناء زيارتها لسجن حلب، لكنها لم تفلح في ذلك لأنه كان قد نقل إلى سجن يافا قبل أيام قليلة من زيارة (آن بلنت) وزوجها للسجن، بعد ذلك تورد الكاتبة طرفًا من أخبار كرو الكردي، لكن المترجمان يتدخلان تدخلًا سافرًا خاليًا من الأمانة العلمية فيبدّلان ويحذفان لغايات غير نبيلة.

فقد ترجما عبارة:(خاب أملنا لعدم التمكن من رؤية كرو، اللّص الظريف (الرائع) الذي سمعنا به مرارًا) الواردة في الأصل الإنجليزي إلى الآتي: (خاب أملنا في رؤية كرّو قاطع الطريق – الرجل الكردي الغريب – الذي سمعنا عنه الشيء الكثير)، بترجمة كلمة (picturesque) والتي تعني (الرائع، الظريف) إلى كلمة غريبة عن معنى الأصل الإنجليزي وهي (الغريب) والتي تحمل دلالات الإنكار والإقصاء ([6]). ربما قد يحسن القارئ الظن في المترجمين فيرد الخطأ إلى السهو أو الخطأ الذي لا يكاد يسلم منه أحد، أو ربما الأمر عائد إلى فهمهما لكلمة (picturesque) بهذا المعنى الغريب، إلا أن هذا حسن الظن يتلاشى عندما نجد أنهما ترجما كلمة (picturesque) الواردة في الكتاب سبع مرات بمعنى (المشرق أو الرائع أو الجميل)، ولم يترجماها بمعنى الغريب إلا في ذلك الموضع.

في القصة نفسها يغير المترجمان اسم قرية (قطمة) من قرى عفرين والتي وردت في النسخة الإنجليزية هكذا (katma) إلى كلمة (كاظمة) وهي بعيدة كل البعد عن اللفظ الإنجليزي الوارد في الكتاب، وربما يحسن القارئ الظن مرة أخرى فيرده إلى خطأ غير مقصود، إلا أن هذا الظن يتلاشى عندما ندرك أن الكاتبة تشير إلى تلك القرية بقولها: (إن سكانها الأكراد)، طبعًا المترجمان يحذفان هذه العبارة التي تشير إلى هوية سكان قرية قطمة من النص المترجم حذفًا مبرمًا.

وتورد الكاتبة في القصة نفسها إشارة مهمة إلى الأخلاق الكردية في الحروب والقتال والتي تحرم سفك الدماء إلا في حالة الدفاع عن النفس، فتقول الكاتبة عن كرّو بأنه: (كان حسن المظهر والمعشر، مهذبًا شجاعًا لا يسفك الدماء إلا دفاعًا عن النفس. كان الأمر ملحوظًا عند الأكراد الذين ينتسب إليهم كرو)، طبعاً العبارة التي تقول فيها الكاتبة: (لا يسفك الدماء إلا دفاعًا عن النفس. كان الأمر ملحوظًا عند الأكراد الذين ينتسب إليهم كرو) لا يذكرها المترجمان مطلقًا.

لكن أليس من الممكن أن يكون الأمر تلاعبًا من قلم الرقيب وبترًا للكلمات بمقص الرقابة؟! نقول: ذلك ممكن، لكن من المؤسف أن الأمر لم يقف عند المنع الرسمي؛ فقد تماهى أفراد المجتمع السوري مع تلك السياسة الظالمة؛ فمارس المجتمع دور السلطة المانعة، حتى أولئك الذين عارضوا سياسات النظام انسجموا مع تلك السياسة العنصرية للنظام تجاه الكردي (تاريخاً، ثقافة، وجوداً)، ولا يبعد أن يكون هذا التشويه المتعمد للنصّ المترجم مندرجًا تحت هذا التماهي المجتمعي مع تلك السياسة، وربما من المفيد الإشارة إلى أن تلك السياسة العنصرية وماكينة التشويه والتحريف فرّخت الآلاف من النسخ المشاكلة لنسخة المترجمَين المذكورَين الذين يشوهون الحقائق ويلفقون الأكاذيب ويطمسون الحقائق ويعمقون الشرخ والانقسام بين مكونات الشعب السوري.

الهوامش:

([1])  اللّيدي (آن بْلَنْت) مستكشفة إنجليزية زارت منطقة الفرات 1978 وتحدثت عن قبائل الفرات العربية في كتابها (عشائر بدو الفرات) ولها كتاب آخر بعنوان: (رحلة إلى بلاد نجد) عام 1879م، سجلت فيه رحلتها إلى حائل في نجد.

([2])  الشرق المقصود هي البلاد الممتدة من الصين إلى شمال أفريقيا مروراً بالهند والشرق الأوسط.

([3])  ترجم الكتاب مرة ثانية بترجمة أدق وأصدق الدكتور أحمد إيبش، صدرت الطبعة الأولى 2013 عن دار الكتب الوطنية، أبو ظبي: الإمارات العربية المتحدة.

([4])  يُنظر: عشائر بدو الفرات، ترجمة أسعد الفارس، ونضال خضر معيوف، الصفحة (10).

([5])  لوحة تعود لعام 1894 وتمثل قطاع طرق أكراد من زردشت، صفحة الأرشيف الكردي.

([6])  يُنظر: ترجمة أسعد الفارس، ونضال خضر معيوف الصفحة (59).

المصادر والمراجع:

  1.  (BEDOUIN TRIBES OF THE EUPHRATES)، (Anne Blunt)، دار (HARBER BROTHER)، نيويورك، الولايات المتحدة الأمريكية، عام 1879م.
  2. (قبائل بدو الفرات 1878)، الليدي آن بلنت، ترجمة أسعد الفارس، ونضال خضر معيوف، دار الملاح للطباعة والنشر، دمشق، سوريا، الطبعة الأولى، عام1991.
  3. (عشائر بدو الفرات)، الليدي آن بلنت، ترجمة د. أحمد إيبش، دار الكتب الوطنية، أبو ظبي: الإمارات العربية المتحدة، الطبعة الأولى، عام 2013.
  4. “كرو الكردي”، والترجمة التي أخفت أكراد قرية في حلب، https://youtu.be/f3YA5KgMIiM

اترك ردّاً