بلا مأوى – شذرات نثرية

جميلة موسى

1-
إدراك الغرق
لم يكن حينما تمدّدتُ على سطح البحر لثوانٍ،
وسمعتُ موسيقى تشبه السلام،
سلامٌ تامّ.
ولم يكن بعد مرور الدقيقة وأجزائها،
حينما بدأتْ أطرافي تتحرّك، تحاول النجاة.
كان شعورًا لا يُوصف،
لكنه بدأ حينما علوتُ وعلوتُ، لألامس السماء فرحًا.
ثم…
ثم ماذا؟
بقوّةٍ هائلة، سحبتني من السماء إلى جوفك،
دونما نجاة.
فغرقت.


-2-
انتظرني،
قلتُها بصوتٍ خافتٍ يختبئ خلف ثقلِ الكلمات.
لن أجعل منك حبًا،
ما لم أستطع أن أغفر لأبي
قسوةَ قلبٍ وهبني إياه،
وما لم يغفر لي تجاهلي لمكالماته المستمرة.

انتظرني،
لعلني أنسى صفعاتِ الحياةِ القاسية
التي انهالت عليَّ مرارًا في عامٍ واحد،
كي أستعيد براءةَ النظرِ إلى هذا العالم.
لطالما كنتُ أراه بعينِ طفلةٍ
لا تعرف الخداعَ، ولا تخشى الألم.

انتظرني،
لأستردَّ أنايَ من الفراغِ المظلمِ الذي اعتلاني.
اقتربتُ، ولمستُ أذنيك كما كنتُ أفعل،
ثم همستُ:
“لعلّك يومًا تصنع من رمادي حديقةَ ورد،
وأمنحك شذاها كما تمنح الأحلامُ اليقين.
لكنني ظننتُ كلماتي خديعة،
وسرعان ما غرستَ سكينك في قلبي.
سقطتُ قتيلةً بين يدي عشقٍ جعل اللقاءَ بيننا مستحيلًا.
كنتَ النهايةَ التي سحقتك،
وأنتَ البدايةَ التي لم أستحقها.”


-3-
أطرافي أرهقها الهرم،
وقلبي لم يعد ينبض بالشغف،
يجلس في زاويةٍ كمدخنٍ نتن،
ينتظر يومه بصمتٍ وعبث.

قلمي الذي كان يحكي عنك،
غفا منذ زمنٍ طويل،
سأتوقف عند معبر النسيان،
وأطوي صفحة الحنين الثقيل.

لساني ما عاد يردد اسمك،
لم أعد أرتبك في ذكر الأسماء،
فاسمك، الذي كان يتصدر دعائي،
صار غريبًا في صلواتي الخرساء.

عيناك…
وطني الذي رسمته بالحب،
ما عادت تعني لي المطر،
ذلك المطر الذي كان يجمعنا
بلهفةٍ… بارتعاشةٍ… بحلم.

والآن…
تبكيني ذكراها،
تبعثر أشلائي،
تعصر سنواتي ككأسٍ مُرّ،
تذكرني بوجعي الأول،
فأخشع…

يا إلهي،
متى سأنجو؟


-4-
لا تخف يا طفلي من بُلوغ مشاعرك نحوي، فأنا لك أُمٌّ، وأختٌ، وحبيبة.
لا تَخْشَ أن تُظهر أطرافك الحزينة لي، ولا تصُدَّني عنك، فأنا روحك، وأنت روحي.
ما زالت قلوبُنا نقيّة، مُعلَّقة على جدران النسيان.
دعني أحتوي آلامك، كما تحتوي الأرضُ بُذورها، ليغمرَها دفءُ الشمس، فتُزهِر ابتسامتُك التي أفتديها.
دع يدي تَمسَح على قلبك، لتُزيل ما تبقّى من آثار الخذلان.
ودعها تُلامس جروحك، فكلُّ جزءٍ منك، مهما تألّم، هو جزءٌ مني.
دعنا نلتقي مُجدّدًا، ومن جديد، لنتحرّر من فكرة النصيب،
لنكن أبديّين، لا يُفرّقنا إلا الموت، ثم يجمعنا الحبيب.
دعنا نخوض حديثنا الطويل الأنيس مرارًا،
نُعاوِد خلافاتِنا ومعاركَنا الصغيرة، كما لو أنّها جزءٌ من حديثنا الأبدي.
دعني أَسْرُد في خيالاتي وأنت تُحدّثني،
دعني أَكُفُّ عن مضايقتك بثَرثرتي، لئلا أُثير فيك خَنَقًا.

-5-
عانقني،
عانقني لتمضي سنينُ روحي العِجاف،
لينبت لقلبي زهرةُ الأمل من الجفاف.
عانقني لأجد قبلتي، طريقي إلى الله،
لأرى في صدرك وطنًا،
وفي عينيك نورًا يرشدني إلى السلام.

عانقني كلما رأيتني أتخبط هنا وهناك، كي أستعيد توازني.
دع العناق يشفي شقوق روحي.
عانقني،
لأعبر في دفء يديك جسرًا بين الأرض والسماء،
لأحمل في روحي سكينةَ المطر،
وأجد في حضنك غفران الأزمان.

اترك ردّاً