مثال سليمان

لم أعد أدري متى بدأت الرحلة، ربما حين خفّ نبضي تحت ظل غيمةٍ نائية، أو حين مالت الريح بي كأغنية لم تكتمل. مشيت صوب المحطة، المعلقة على حافة حلمٍ قديم والضوء المائل يطهّر المرج الممتد أمامي. لم ألتفت للخلف، فلم تعد المدن تغريني ولا وجوه العابرين تناديني.
هو ذا العشب يتسلق خطواتي، يلامسني برفقٍ خفي، كأنها الأرض تتشبث بي قبل أن أغيب. كنت أمشي بخفةِ من يتلمس البحر بأطراف أصابعه، وأنت، كنت موجوداً في كل شيء؛ في رعشة الورق، في عطر العسل المنتشر في الفسحة، في قطرات الندى العالقة على حواف المسافة. لم أبحث عنك، كنت أعرف أنك مخبأ في كل شيءٍ حولي، في الصمت الأزرقِ.
مررت بالنبع المتنبأ بعطشي، سكبت الماء في كفي، ارتويت من زلاله وما هدأ ظمئي، فالذكرى أعمق من أن يرتويها ماء. كل شيء هنا لي، و العالم! انكمش؛ ليتسع لقلبين التقيا مرة تحت سماءٍ لن تعود.
رفعت رأسي صوب غصن عالٍ تتدلى منه طفولتي، شفافة كأمنية مؤجلة. لم أمد يدي، خوفاً من تهشم اللحظة أو أيقاظ الذكرى. مشيت أعمق، و أهمس لأرضٍ أنبتتني: يا أرضي، يا ذاكرة الخطوة الأولى، خبئيني، غريبة بلا ملامح ولا صوت.
خلفي، القطارات تئن والعالم يهرع نحو مدنٍ لا تحتفظ بأحلام سكانها. تتركهم يلهثون، وأنا ها هنا، في هذا الهامش المنسي، ألوّن وحدتي بخيوط العشب وفتات الضوء. أمشي وأحمل اسمك خفيفاً فوق قلبي، سراً بين الأهداب وحكايةً لن أحكيها، أعيشها في كل نفس.
ما عدت أريد وصولًا. أريد البقاء هنا، حافية من كل شيء إلا من الحب، مغموسة في العشب كما جرحٍ مسّه النسيان. أن أصبح شيئاً منسياً أغمضتَ عينك عليه.
مشيت ومشيت حتى صار العشب ضوءاً وانزاح ثقل صوتك عن قلبي.