على مسرح العربية.. يصارع الأديب الكردي اللغة لتناسب قامته

عبدو أحمد/ أقليم كردستان

في معرض الحديث عن الأدب الكردي المكتوب باللغة العربية لا بد لنا من الوقوف على العوامل والظروف التي تقف وراء هذا “اللجوء” نحو لغة أخرى للتعبير عن معاناة وقيم وثقافة أفراد هذا المجتمع الذي لا يزالون في حالة تأرجح بين البحث عن الهوية والوجود كحقيقة تاريخية نسفتها الظروف.

اللغة كانت ولا تزال الوسيلة الأسمى للتواصل بين مختلف الأجناس البشرية، إذ عرفها سابير بأنها “طريقة إنسانية بحتة غير غريزية لتوصيل األفكار والانفعالات والرغبات
بوساطة الرموز المنتجة إنتاجا إراديا”. من هذا المنطلق نجد بأن الأدباء الكرد الذين كتبوا بالعربية اختاروا هذه اللغة لنقل إرثهم الثقافي والفكري إلى شريحة أوسع والخروج من “الدائرة الضيقة” التي ساهمت في تشكيلها العديد من العوامل السياسية والتاريخية، هذه الخطوة التي أقدم عليها الأدباء الكرد ساهمت في تعريف الغير بمعاناة هذا الشعب ونتاجاته وساهمت في تكوين الذات الأدبية الكردية في لغةٍ أخرى.

الأدب الكردي المكتوب بالعربية واجه الإقصاء الممارس بحق الثقافة الكردية، حاملاً بين ثناياه التاريخ والفلكلور والقيم، فالأمكنة كردية بأسمائها وجغرافيتها تتحرك عليها الحوادث

وتنتمي بدورها إلى التاريخ الكردي والشخوص ذات الأسماء الكردية بدلالات ورموز كردية، إذاً وجد الأديب الكردي في اللغة العربية منفذاً لإخراج قضيته من القوقعة المفروضة عليها إلى فضاء أوسع، في هذا الصدد يقول سليم بركات: “وجدت أن اللغة العربية غنيَّة جداً، ويمكن التعبير بها عن خصوصيتي ككردي أكثر حتى من اللغة الكرديّة”، إذاً الخصوصية الكردية حاضرة وبقوة في هذه اللغة التي التجأ إليها روادها طوعاً نتيجة عوامل قسرية، ويشير بركات إلى الظروف التي دفعته إلى اختيار هذه اللغة والدوافع الكامنة وراءها قائلاً: “ذهبت في اتجاه شريك منعني عن اللغة الكرديَّة، ذهبت إليه متسامحاً بلغته التي هي اقتداري على تدبير حريتي في بلاغتها، وتدبيري هويتي في نبلها الأعمق مستغلاً استغلال العاشق تواطؤها (اللغة) مع أعماقي على تدبير المعنى الذي يستحقه كردي في الإشارة إلى دجاجات أمّه وتبغ أبيه”.

يصارع الأديب الكردي في رحلته على ضفاف لغةٍ أخرى، نفسه تارةً وتارةً أخرى يصارع الأثنية الملتبسة التي لا حدود لها، مواجهاً بذلك الظروف والعوامل التي أرغمته على متابعة السير في رحلته معيداً صياغة اللغة لتناسب قامته وأبعاد ذاته، لكن ما هي العوامل والظروف الذي أودت بالأديب الكردي إلى السير في دروب لغةٍ أخرى ؟

إن لجوء الأديب الكردي إلى العربية تضعه في خانة “ازدواجية الأدب” التي ليست ظاهرةً كردية صرفة – إذ يوجد العديد من الأدباء من قوميات أخرى يعيشون الحالة تفسها كالأمازيغ –

لعبت العديد من العوامل دوراً كبيراً في توجه الأدباء الكرد نحو اللغة العربية، وتعد الحروب الإسلامية على جغرافية كردستان في عهد عمر بن الخطاب ودخول الكرد في الدين الإسلامي أول احتكاكٍ لهذا الشعب مع اللغة العربية من خلال القرآن المكتوب باللغة العربية، فكانت الحجرات والمدارس الشرعية أول من أخرجت الشعراء الذين كتبوا بالعربية حتى بدايات القرن العشرين، أبرزهم: (فقي تەيران، ملايي جزيري، أحمدي خاني)، وكذلك الضغوط السياسية التي تعرض لها الشعب الكردي خاصةً في سوريا دفعت الأديب الكردي إلى اللغة العربية، إذ أن الأنظمة السياسية الحاكمة منذ عهد الانتداب الفرنسي على سورياً وصولاً إلى عهد حزب البعث لم تتعامل مع الخصوصية الكردية بل عمدت إلى قمع هذه اللغة وإنكارها، هذه أبرز العوامل التي دفعت بهؤلاء الأدباء نحو اللغة العربية.

يقول وليم هازلت: “إن أدب أي أمة هو الصورة الصادقة التي تنعكس عليها أفكارها”، والأدب باعتباره أحد أشكال التعبير الإنساني يتخذ أشكالاً عديدة يعبر من خلالها الفرد عن أفكاره وقضاياه، نجد الأدب الكردي يتسم بصفات هذا المجتمع والمرآة العاكسة لمعاناته، يتنقل بين الشخوص والأمكنة حاملاً رسالته متلوناً بلونه، وتعتبر الحكاية أبرز أشكال الأدب الكردي لما يحتويه تراث هذا الشعب من أساطير وقصص شعبية محكية، تليها الأنواع الأدبية الأخرى من رواية وقصة وشعر ومسرح، ونستشهد هنا بقول المفكر والباحث الكردي إبراهيم محمود من مقالةٍ له في موقع (Weltê me): “أعتبر أن الأدب الكردي حكائي بامتياز، في كل ما تميَّز به من شعر بداية، بأصنافه المختلفة، ومن قصة، ورواية ، ومسرح، في الترتيب الأخير، استجابة لقانون الهجرة الذي يلزم باللاثبات، وانعدام المكان الذي يستوعب ساكنيه، لمقاربة مفارقاته، وبوقت كافٍ، وعندما أربط الأدب الكردي بالحكاية، فليس تقليلاً من أهميته، وإنما تكبيراً له، وحتى محاولة تعريف بأهمّ ما يميزه مأسوياً في وجوده”.

إن لجوء الأديب الكردي إلى العربية تضعه في خانة “ازدواجية الأدب” التي ليست ظاهرةً كردية صرفة – إذ يوجد العديد من الأدباء من قوميات أخرى يعيشون الحالة تفسها كالأمازيغ – وبالتالي تنقسم الآراء حولهم إلى قسمين، قسمٌ يرى فيهم رُسل اللغة الكردية خارج مسرحها وقسمٌ آخر يرى أن من يكتب بغير الكردية لا يعتبر “كردياً” وعادةً ما يكون رواد هذا الرأي الأدباء الذين يكتبون بلغتهم الأم ويفند المسرحي الكردي أحمد إسماعيل هذا الرأي قائلاً: “أنا الكاتب الكردي، الذي يكتب بالعربية، على قناعة تامة بأن اللغة هي التي تمنح الأدب هويته: لأن عوالم الأدب ليست من لحم ودم، أو من طين وإسمنت، أو إسفلت، أو عشب، أو ما شابه كل ذلك، بل من كلمات منسوجة من خيوط اللغة..هي كائنات، وأشياء، من ورق وحبر، ومن كلمات خرجت من رحم اللغة”.

لقد ساهم الأدب الكردي المكتوب بالعربية في بناء جسرٍ للتواصل مع المجتمع العربي وذلك عبر النص الذي يحمل هوية المؤلف، وتعكس ذبذبات عوالمه بما في ذلك العالم الخارجي الذي يعيد تشكيله ثم ينتجه في صورة نص متطابق معه، من هذا المنطلق يستهل النص شهقته الأولى على مسرح العربية بأنفاس كردية صرفة، مزخرفاً بالإرث التراكمي لهذه الثقافة، حاملاً قضية الفرد والمجتمع بما فيها من انكسارات ورغبةٍ في الوجود.

اترك ردّاً