عبدالرزاق عبدالرحمن

ركب البحر بسفينته الشراعية الصغيرة يبحث عنها… إلى حيث لا يدري. ترك للريح حرية القيادة، كان يتضور جوعًا وجسمه قد نال منه الضنى، والوقت عشية. لم يحمل معه سوى ساعته والسراج، ولم يدرِ لماذا حمل معه الساعة، ربما لأنها كانت هديتها قبل هروبه وبدء رحلة اللجوء.
لم يدرِ كم أبحر… كوّم كامل جسده في إحدى زوايا السفينة ينظر إلى نار فتيل السراج، فأحس بدفء يسري في داخله…
تذكر حديثها في آخر لقاء: “كم أتمنى، يا حبيبي، أن أنام ليلة أخرى في حضنك أنا وأطفالنا الثلاث”. وتذكر هِرّته الصغيرة التي كانت تأبى النوم إلا في تلك السلة القديمة، بعد أن تدفن كامل جسدها بين الريش فتنعم بالهدوء والدفء… كم اشتاق لهم وكم حسد تلك القطة…
حينها هبّت نسمة قوية أطفأت السراج، وكان قد نسي أن يحمل معه كبريتًا. أغمض عينيه المتقرحتين… تمنى لو تأتي… وتشعل السراج… هي؟… هي، أجل، إنها هي… أقسم بالله إنها هي!
اقتربت منه… اقتربت حتى التصقت به وجلست… يا الله كم هي معصوبة الخلق، قالها والسعادة والدفء يغمرانه.
أمسكت بأسنانها بداية سبّابتها اليمنى في خجل، وشعرها الليلي حين تأتيها النسمات كان يسير كموج البحر، يغطي وجهها ويسدل على كتفيها كشلالين… على صدره كانا يتلاطمان، ومن ثغرها يكاد السلاف يتقطر، وذاك السجين بين أضلعه كان يضبح كالشهوان…
ساكنة في جلستها البريئة، لا ترفع عن وجهها شعرها الناعم، وكان يتأملها في صمت. أحيانًا كانت تهب نسمات أقوى فتزيح بلطف وحنان شعرها الداكن كغيمة سوداء، فيبدو وجهها كأنه الزبرقان…
وضعت يدها تحت رأسه… كان يفهمها رغم صمتها، وكانت تحس أنه يفهم لغة الصمت. عندما حاولت أن تضم رأسه إلى صدرها (وكم كان مشتاقًا لسماع صوت دقات قلبها!)، فقد مضى وقت طويل طويل على أول مرة سمع ذلك الصوت. ولكنه هذه المرة، وقبل أن يصل رأسه لصدرها وفي قمة نشوته، سمع صوت دقات أقوى، فانتفض مفزوعًا!
لقد كان صوت جرس الساعة، وكانت السابعة صباحًا. نزق وعفّر وجهه. كم أنا تعيس الحظ، حتى في الحلم أنا تعيس الحظ… قالها ثم ألقى نظرة احتقار على شاطئ البداية…!
دار نصف دائرة وكأنه لم يكن يريد أن يودع منزل أهله، أو كأنه كان يريد رؤية الشاطئ الآخر… شاطئ الأمان. صاح بصوت عال:
“الرحمة… الرحمة… أكاد أختنق، فثمّة أيادٍ تضيق عليه الخناق دون شفقة.”
إلا أن صوته كان يدور في دوامة دون أن يلقى أذنًا تسمعه، ودون أن يصل إلى أي من الشاطئين…
وتابعت سفينته سيرها إلى… …؟