جيفارا حمو

إذا أنهوا الصراعات وأحلوا السلام، ستبقى ندوب الحروب جزءاً من حياتنا، ندوباً غائرة لا تشفى، نتعايش معها في صراع داخلي قبيح.
الحروب لا تترك خلفها أطلال المدن والقرى فقط، بل تهدم جدران الروح، وتترك الأرواح في متاهة بلا مخرج. الدمار الذي أحدثته تلك الحروب طال الأطر التي كانت تربطنا كبشر، فمزق الروابط التي كانت تجمعنا وجعلنا نعيش في عزلة داخلية وإن كنا محاطين بالبشر.
لقد دمرت الحروب المبادئ والقيم والأخلاق، وكسرت العمود الفقري لوجداننا، وتركتنا بلا مرجعية نعود إليها في أوقات الانكسار. أصبحنا كمن فقد البوصلة وسط بحرٍ هائج، نبحث عن أمل في زمن العجز الكلي عن إيجاد حلول من الأرض. أبقتنا مهمشين في زوايا الظل، أشباه البشر، ننتظر الرحمة من الدول التي تمجد قيمها الأخلاقية والإنسانية، لتفتح أبوابها للمنهكين أمثالنا.
وإن كانوا يعتقدون بأن إحلال السلام هو خلاص للأناس الذين عاشوا تحت الظروف القاسية، فهم واهمون. فالسلام الداخلي قد فقدناه مع مرور الوقت، وسنعاني تبعات ذلك لعقود. نحن لم نفقد السلام فقط، بل فقدنا القدرة على الشعور به؛ كمن يشتاق للراحة لكنه لم يعد يعرف طعمها. أما السلام الحقيقي الذي سيفرض علينا، فسيكون بمثابة بداية العلاج الذي سنكرهه بشدة، لأنه سيكشف لنا شدة البأس الذي نحن فيه، وسيظهر الكومة الهائلة من الأمراض النفسية التي ستهلك أرواحنا.
الحروب لا تترك أحدًا بريئًا، حتى من نجا منها يحمل ندوبها. ورغم ذلك، سنكافح لعلنا نبني أجيالًا لا تعيش في بيئة غير صالحة للعيش بتاتًا. ستكون مهمتنا أن نصنع من الحطام دروسًا، ومن الألم جذورًا تنبت من جديد. لن نرحم الساسة في كتاباتنا، أولئك الذين خلقوا أجيالًا تائهة بين الدول كلاجئين، تحمل في داخلها أمراضًا نفسية ستنهك الدول التي استقبلتهم. لقد حوّلت الحروب البشر إلى أرقام، ولكن الأرقام تملك قصصًا، وهذه القصص ستظل شاهدة عليهم.
لكل سياسي قذر أقول: الأشياء الثمينة لا تتكرر مرتين، لذلك نحن لا نملك إلا حياة واحدة، وأنت أفقدتنا إياها. إذا كان من رحلوا تحت التراب قد أبقوك في الأمان، فستلحقك أرواحهم لتلعنك. قد تنجو كونك الشيطان على الأرض، لكن أرواحهم ستطفو بين الأحياء فوق التراب، وما بين أقلامهم وأحبالهم الصوتية.
سنكتب ونرسم ونغني ما تعانيه تلك البقعة الجغرافية من أهوال الحرب التي تغذيها الساسة. فالحروب لا تنتهي بانطفاء النيران، بل تظل ألسنتها تحرق القلوب لعقود. سنحكي عن الذين فقدوا كل شيء، ومع ذلك تمسكوا بكرامتهم، عن الذين حملوا أوجاعهم ولم يكسرهم الخوف، وعن أرضنا التي تحولت من وطن إلى جرح. سنقول للعالم: الحروب ليست مجرد أخبار في نشرات المساء، إنها أرواح تُسلب وقلوب تتحطم، وندوب تبقى معنا إلى الأبد.