صندوق السوري الأسود-قصاصات من دفتر كاتب…!

أحمد إسماعيل إسماعيل

لو أجرينا استبياناً على جميع البشر، الجاهل منهم والمتعلم، الشرير والخير، الصغير والكبير، عن ضرورة الفن، لكان جواب الجميع بالإيجاب.
غير أن لكل قاعدة استثناء، والديكتاتور هنا هو هذا الاستثناء، وذلك لأنه ديكتاتور وحسب.
ولأن هذا الكائن، مثل البشر جميعاً، يدرك تماماً أن دوام الحياة الطبيعية بلا فن ضرب من المستحيل، إذ إن بالفن وحده يصبح العيش في الحياة ممكناً، بل وجميلاً، لذلك كان عليه إيجاد صيغة تحقق له هذه المعادلة: لا يُقتل الراعي ولا تفنى الماشية، فكان عليه، والحال هذه، اللجوء إلى تدجين الفن.
فحوّل المؤسسة إلى مدجنة، والفنان إلى موظف، وفي اليوم العاشر.. استراح.

غير أن المسرح فن عصيّ على التدجين، لا يمكن ترويضه والحفاظ على هويته في الوقت ذاته، لأنه ببساطة مركب من جوهرين متناقضين، المدنية والمشاعية أو البربرية. ولعل ذلك يفسر لنا ما أصاب هذا الفن في المؤسسات الحكومية والحزبية في سوريا، وفي مداجن ثقافية أخرى في جمهوريات الموز، من كساح.
وفي جعبة المسرحيين في هذا البلد كثير من الكلام بهذا الخصوص، ما يُحكى في العلن وما يتردد في السر، ولعل ما بقي طي الصدور أعظم.
وتجربتي في هذا المجال ليست سوى واحدة من تجارب سورية كثيرة. وقولها، حتى ولو فضحت، كما يقول المثل، خير من بقائها في القلب لتجرح، رغم أن ما حصل بعد سنة 2011 لم يبقِ على سر خفي.

ليست الذاكرة كتاباً صفحاته مكتوبة بعد تدقيق ومراجعة وتنسيق، ولا ألبوم صور تم التقاطها عن سابق تحضير، ونحن في كامل أناقتنا؛ بل صندوقاً يختلط فيه، وبلا ترتيب، ما هو جميل بما هو قبيح، وما هو قديم بما هو جديد، المفرح والمحزن. ولعل باندورا السورية التي فتحت هذا الصندوق في 2011 وأخرجت كل ما فيه وأبقت على الأمل، فضحت آلهة الشر التي تسكن في جبل المزة.
ولكل سوري صندوقه، وتكاد محتويات صناديق السوريين أن تكون كلها متشابهة. وبصفتي كاتباً سورياً، سأعرض بعض الشرور التي وضعتها تلك الآلهة الشريرة في صندوقي.

حين دُعيت إلى دولة الإمارات المتحدة لحضور حفل تكريم الفائزين بجائزة الطفل العربي، واستلام جائزتي عن مسرحيتي الحقل المنيع الموجهة للأطفال، وذلك سنة 2002، كان عليَّ مراجعة دائرة الهجرة والجوازات في دمشق. هناك طلب مني الموظف مراجعة فرع أمن الدولة في كفر سوسة، فذهبت، وبعد تحقيق طويل، طلبوا مني انتظار العميد أمام باب مكتبه، فهو خارج المكتب وسيعود بعد قليل. وراح القليل من الوقت يزداد، والكثير مما كان لدي من موعد إقلاع طائرتي يتناقص، وعليَّ الإسراع إلى المطار، وقبلها إلى دائرة الهجرة والجوازات. ورحت أذرع المكان جيئة وذهاباً، وتوالت الدقائق مثل نبضات قلب ضعيف، واستحالت الدقائق إلى ساعة أو أكثر.

دخلت بعد تردد مكتب النقيب الذي كان قد أمرني أن أنتظر العميد، وذلك بعد أن أجرى معي تحقيقاً غير طويل. أعلمته أن باب العميد مغلق، ورجوته أن يسمح لي بالمغادرة، فالعميد قد تأخر، وقد لا يعود قريباً. حينها ستغادر طائرتي في الساعة الثالثة وعشر دقائق، والساعة الآن… فرد بعصبية:
– “خليها تطير”.

قلت له:
– وماذا عني؟ لن أسافر؟

قال:
– لا تسافر، أين المشكلة؟

قلت:
– ولكنني مدعو لتكريمي باسم سوريا يا سيادة النقيب.

فرد بحنق:
– “أي طز”. قلت لك انتظر العميد وكفى. “شو ما عم تفهم؟”

وخرجت من مكتبه، وانتظرت أمام باب مكتب العميد. مضى وقت غير قصير ولم يأتِ العميد. غير أن وقتاً آخر كان يهرول مثل حصان جامح، إنه وقتي. فقررت الخروج من المبنى والعودة إلى البيت. وحين هبطت إلى أسفل، هناك، أمام الباب، استوقفني حارسان، قالا لي:
– إلى أين يا “أبو الشباب”؟

قلت لهما:
– سأخرج.

– أين إذن الخروج؟ من سمح لك بالمغادرة؟

مدّ أحدهم كفه نحوي بانتظار أن أقدم له ورقة ما. فأدركت أن المقصود هو تصريح خروج. لم أكن أعرف ذلك، أصبت بالارتباك، وأيقنت أن لا أمل لي بالسفر، بل أكثر من ذلك، فأنا قد أكون رهن الاعتقال.

عدت إلى حيث كنت، وبدأت أروح وأجيء بقلق، بل بخوف. وفجأة دعاني أحد الموظفين، وكان يتابع حركاتي بنظرات غريبة. فلبيت الدعوة، وأنا أضرب أخماساً بأسداس. سألني عن وضعي، فأخبرته أن صديقي ينتظرني خارج المبنى، وقد أتأخر، ولا أعرف ماذا سيفعل. لذلك لو سمحت، أريد إبلاغه بأنني بانتظار سيادة العميد. ثقب وجهي بنظرات فاحصة، ثم كتب على ورقة بضع كلمات مثل تميمة المشعوذ، وقال لي:
– اذهب وأعلمه، ثم عدْ بسرعة.

فأكدت له أنني سأفعل، شكرته وخرجت.
ولكنني لم أعد إليه، بل قررت العودة إلى قامشلي. وبينما كنت أسير مع صاحبي، هتف في داخلي صوت يحرضني على الكذب، فإذا كان الصدق مع الناس ينجي، فالكذب مع المخابرات أنجى.

توجهت من فوري إلى دائرة الهجرة والجوازات، وهناك قلت للموظف إن مديرية الأمن استغربوا قدومي. وأخرجت من جيبي نقوداً ورقية، حرصت على أن يراها هو دون غيره من الموظفين. لمحها بسرعة مثل قط جائع، ومد كفه نحوي يطلب جواز سفري. وبخفة القط انتقل من مكان لآخر، من مكتب إلى آخر، من زاوية إلى أعلى ثم أسفل. وأخيراً عاد وهو يقول:
– “مشي الحال”. ثم همس كفحيح: “هات”.

فأعطيته مائة ليرة كانت الورقة التي في يدي. وحين نظر إليها، تغيرت سحنته، ورمقني بنظرة شزرة وهو يقول:
– يخرب بيتك، “رايح” على الإمارات وبلا موافقة المخابرات، وفي النهاية مائة ليرة فقط؟!

فالتزمت الصمت وبحثت في جيبي متصنعاً البحث عن النقود. فالتفت حوله وأردف: “روح خلصنا”.
وخلصته، وخلصت نفسي. وعلى جناح السرعة انطلقت سيارة الأجرة إلى المطار، وركبت الطائرة، ووصلت، واحتفلنا هناك. وأقيمت لنا حفلة فنية أحيتها الفنانة السورية ميادة بسيليس، واستلمت الجائزة بكل تقدير واحترام، ولكن بخوف وقلق. بالطبع، إليك النص مُدققًا نحويًا ومنسقًا بعلامات الترقيم المناسبة:

فقد كانت المخابرات معي، في داخلي، وهي تتفنن في معاقبتي بسبب مخالفتي للأمر، والسفر دون رضاهم. وفي الطائرة التي عدنا بها، كان الدكتور رياض عصمت معي. رويت له ما حدث، فنظر إليّ طويلاً بصمت، وقال: “لا تخف”، ثم غيّر الموضوع. ولكن الخوف بقي يعبث في داخلي؛ إذ صنع خيالي أكثر من مسرحية، كنت فيها الضحية والمخابرات هي الجلاد.

وبعد أربعة أيام عدت إلى سوريا. نزلت من الطائرة بخوف، وخرجت من المطار بفرح، ووصلت الكراجات بقلق. وحين وصلت إلى قامشلي، تنفست الصعداء، ولكن دوام الحال مع المخابرات من المحال.

دخلت إلى بيتي ومعي شهادة تقدير وألفا دولار. ولقد كان هذا المبلغ بالنسبة لكاتب ومعلم مدرسة ابتدائية ليس قليلاً، أشبه بكنز. وكم كانت فرحة عائلتي الصغيرة كبيرة! تلك الفرحة التي كنت أنتظرها منذ زمن بعيد، وأرجو تثبيتها على وجوههم. ولكنها سرعان ما انقلبت إلى هلع، وذلك بعد يومين من وصولي إلى قامشلي.

أذكر أنني حين فتحت الباب لدورية عناصر أمن الدولة، ودون إذن مني، وبما يشبه الاقتحام، دخل عناصرها إلى البيت. طلب أحدهم مني، وبما يشبه الأمر، أن نعد لهم القهوة. وبدأوا باستجوابي. والمفارقة أن الأسئلة كانت عن الجائزة:
• لماذا؟ وما هي؟ وما هو موضوع النص؟

لا أعرف كيف حدث أن علا صوتي وأنا أسأل الدورية بدهشة، لعله الانتشاء بالفوز:
• كيف تحققون معي وأنا حصلت على جائزة اسمها جائزة الطفل العربي، لا الإسرائيلي؟ ومن دولة عربية؟ وعن موضوع تربوي؟ وباسم سوريا؟ وفي بيتي؟!

نهرني أحدهم وقال: “لا تجعلنا نتصرف معك بما لا يعجبك”.
وعلى الفور، جاءني صوت زوجتي من خلف الباب، وهي تقدم لي القهوة بيدين ترتعشان. طلبت مني بهمس وضراعة أن أصمت: “فأولادنا صغار، وأنت مريض بالديسك يا أحمد…” وصمتُّ.

والصمت هنا ليس علامة الرضا، بل علامة من جملة علامات كثيرة معروفة. ومضى ذلك اليوم بقلق. وحملت الأيام القادمة الأخرى الكثير من الترقب المشحون بالقلق، الذي مسح كل فرحة بالجائزة.

ومرت الأيام، سمعت خلالها أن بعض نصوصي قد مُنعت من العرض. فمسرحيتي التي تحمل عنوان موت الحجل، مُنعت من العرض في حمص. والحجة: أنها تتناول موضوعاً كردياً، وصاحبها لا بد أن يكون انفصالياً. أخبرني المخرج بذلك في اتصال هاتفي. وكان قبلها قد طلب مني اقتراحات بخصوص الديكور والزي الكردي والموسيقى.

وتكرر الأمر في عفرين، إذ منع مدير المركز الثقافي فيها تقديم مسرحية لي، كان المخرج الشاب محيي الدين أرسلان ينوي عرضها.
والحجة: أن صاحب النص ملفه الأمني غير نظيف، رغم أنني كنت حينها عضو اتحاد الكتاب العرب، وتحت أمرة الجنرال علي عقلة عرسان!

وفي سنة 2006، فوجئت فرقة مسرحية كانت تقوم بالتدريب على مسرحيتي الرهان الخاسر، والموجهة للأطفال، بالمنع. والحجة: أنها كردية. وحين علموا أن الموضوع تربوي، تذرعوا بأسماء الشخصيات في النص. فاسم “جتو” في النص كردي.

وحين أخبرت الفنان الراحل نضال سيجري بالأمر، بعد أن سألني في مكتبه عن نشاطاتي المسرحية، وكان حينها مديراً للمسرح القومي، استنكر ذلك، وطلب مني مرافقته إلى مدير المسارح. وأمام المدير، دافع هذا الفنان المحبوب عن حقي في تسمية الشخصيات بحرية، حتى لو كانت كردية، طالما أن الموضوع غير مسيء. وحين اتضحت الصورة لمدير المسارح، وتأكد من أن المسرحية تربوية وحسب، سمح بإطلاق سراحها.

تابع مخرجها خوشناف ظاظا عرضها في أكثر من محافظة، ولمدة تزيد على عشر سنوات.

لن أتحدث هنا عما كان يحدث في الساحة المسرحية الكردية، والتي عملت مع بعضها، من إرهاب السلطة وأجهزتها الأمنية تجاه العروض والفنانين. ورغم تقديم هذه الفرق عروضها في مساءات البراري وأطراف المدن والقرى البعيدة، فإن الحديث في هذا الموضوع ذو شجون من نوع آخر، يكاد لا يُصدق.

بعد انتفاضة الثاني عشر من آذار، التي شهدتُ فصولها وشاركتُ فيها، كتبتُ نصاً مسرحياً عن إسقاط تمثال حافظ الأسد، الذي حدث فعلياً في مدينة عامودا على أيدي ثوار المدينة. أسميتُ النص القربان، وكنتُ أنوي الاحتفاظ به وعدم إخراجه إلى العلن إلا حين أجد فرصة مناسبة. ولكن، عندما طلبت مني مجلة الموقف الأدبي، التي تصدر عن اتحاد الكتاب العرب، المشاركة في ملف المسرح الذي تقوم جمعية المسرح بإعداده، ولأنني كنت عضواً فيها، قررت إرسال هذا النص. كانت مغامرة أشبه بمن يرمي بنفسه في لجّة البحر وهو لا يتقن فن السباحة.

ولكن، كان لا بد من إجراء بعض التمويه؛ فقمت ببعض التعديلات على النص، أسميتُ الرئيس مولانا، ومدير المنطقة الوالي، وأبقيتُ على تفاصيل المكان والمشهد المقصود. ثم أرسلت النص إلى المجلة، ليس بالبريد، بل إلى أحد الزملاء عن طريق شركة هفال لنقل الركاب، بقصد السرعة وضمان الوصول. ولم أكن أعلم أن عناصر أمن الدولة تراقب الرسائل والطرود المرسلة بشكل يومي. فقد قامت بسحب مادتي من بين الظروف مباشرة، حسب ما روى لي الموظف في الشركة والمسؤول عن البريد.

فوجئتُ بعد أسبوع بمكالمة هاتفية من زميل لي في الاتحاد يستعجل إرسال المادة، فأعدتُ إرسالها عن طريق شركة نقل أخرى. لتبدأ بعدها زيارات عناصر الأمن إلى البيت، وبشكل شبه يومي تقريباً. كانوا يطرحون أسئلة مختلفة عني وعن نشاطاتي، دون أي إشارة إلى موضوع النص، إضافة إلى أسئلة غبية، لا أعرف إن كانت مقصودة أم أن العناصر كانوا كذلك.

وبعد مرور ما يقارب الشهر، تم استدعائي إلى فرع أمن الدولة عن طريق دعوة رسمية موجهة إلى مديرية التربية. وهناك، في مقر الفرع، وفي القبو الذي هبطت إليه، بدأ اثنان من المحققين باستجوابي. انصبَّت أسئلة أحدهما على نشاطاتي الثقافية وكتاباتي. وقد أثار دهشتي غنى معلوماته في مجالات ثقافية شتى، ومنها الأدب. أما الآخر، فقد تركزت أسئلته على السياسة وعلاقاتي بالأحزاب الكردية وقياداتها. تناوب الاثنان على التحقيق معي، وكل واحد منهما في مكتب مستقل، يتخلل ذلك فترات استراحة، كان خلالها عنصر يرافقني إلى غرفة جد ضيقة، وذلك بأمر من المحقق، لأجلس على كرسي ووجهي يكاد يلاصق الجدار. وما أن أحدق فيه حتى تظهر لي وسط بياضه صور أطفالي وهم يبكون في الشارع جياعاً، بينما أنا أُساق هنا في هذا القبو.

روى لي المحقق السياسي، في نوع من الاستعراض الاستفزازي، أدق التفاصيل عن تحركاتي ونشاطاتي الأدبية والسياسية، التي كانت تقتصر على حضور ندوات لأحزاب كردية. ذكر أسماء الحضور ومداخلاتهم، ومداخلاتي أيضاً. بل وأكثر من ذلك، فقد كان يذكر لي اسم من كان جالساً بجانبي، واليوم والساعة والسنة. ثم انتقل المحقق الآخر، الثقافي، إلى الحديث عن كتاباتي، التي قرأها كلها، بما يشبه الاستعراض. كما سألني عن بعض الكتاب، العالميين والمحليين، وقراءاتي. وفجأة وجدتُه ينتقل إلى موضوع المسرحية، ويوجه لي سؤالاً بعصبية، وبما يشبه التهديد:
• ومسرحية القربان يا سيد أحمد، ماذا تقصد بها؟
قلت:
• لا شيء، الديكتاتورية.
وطبعاً كنت أعلم سلفاً أنها هي جواز سفري إلى هذا الجحيم. فسأل:
• أي ديكتاتورية؟
• الديكتاتورية التي يقف فيها الديكتاتور على الدم.
• هل تقصد القائد الراحل حافظ الأسد وانتفاضة الغوغاء في الثاني عشر من آذار سنة 2004؟
• لا.
• بلى. لا حاجة للتذاكي. النص واضح: المكان، حركة التمثال، وانتفاضة الغوغاء.
• هذا رأيك وقراءتك للنص. كل قارئ يفسر النص وفق جملة من المعطيات، منها مثلاً أفق التوقع. فأنا كتبتُ عن ديكتاتور، أي ديكتاتور، وأنت فسّرته حسب قراءتك ووجدتَ أن النص يقصد السيد الرئيس. إن هذا تفسيرك.

فصرخ في وجهي وأمرني بالصمت وعدم التفلسف.
وأخذ التحقيق منحى آخر، أكثر صراحة وعلى المكشوف كما يقال. كان المحقق لا يكف عن التهديد والحديث بعصبية.

تناوب المحققان على استجوابي مدة ثماني ساعات تقريباً، وأنا أحاول أن أتماسك، حتى في طريقة جلوسي، التي أردتُ أن تكون مريحة وموحية بأنني غير خائف. لكنه زعق في وجهي وأمرني أن أجلس بدون وضع رجل على أخرى وكأنني في مقهى كربيس. وخيراً فعل، فأنا لا أحسن هذه الطريقة من الجلوس، وهي جلسة غير مريحة لي بسبب ألم الظهر، ولكنها كانت تمثيلية متعبة لي وفشلت فيها.
وفي النهاية، وبعد تحقيق طويل ومرهق، أعاد لي المحقق بطاقة هويتي وأغراضي وهو يقول:
• لقد سألنا عنك كثيرين في البلد: العربي والكردي، المسيحي والمسلم، السياسي وغير السياسي، فأجمع هؤلاء كلهم على أنك إنسان طيب ونظيف وخلوق، وأستغرب كيف تكون كما يصفون وكتاباتك ليست كذلك.
• قلت له بتصنع: وهل كتاباتي قليلة الأدب؟
رد بعصبية ونفور:
• لا تتفذلك. لقد فهمت قصدي. خذ أغراضك والله معك. نحن لسنا على استعداد أن نجعل منك بطلًا، ولا إلى قراءة بيانات أحزابك الكردية وجماعات حقوق الإنسان عن اعتقالك. نصيحتي لك: لا توجع لنا رأسنا ولا تخرب بيتك.

تناولت بطاقة هويتي وهاتفي وحقيبة الجيب وخرجت.

بعد أيام، همس مدير مدرستي في أذني: لقد دوخنا الأمن عنك يا أستاذ. ماذا فعلت؟

لم يدم بقائي في مدرستي أكثر من شهرين، ليتم نقلي بعدها إلى قرية خارج المدينة، على طريق تل حميس، وذلك بعد خدمة ثماني عشرة سنة في مدرستي الواقعة في الحي الذي أسكن فيه، وبحجة زيادة الملاك، وليس لسبب سياسي، ربما كي لا يصنعوا مني بطلًا.

في مدرسة القرية التي تم نقلي إليها، كان مدير مدرستي لا يكف عن طرح أسئلة غبية عن كتاباتي، والتلميح لي بأنني رجل “بيخوف”.

فحذرني معلم في القرية أن أحذر هذا المدير، فهو رجل الأمن في المدرسة والقرية.

واستمر الحال حتى نهضت “انتفاضة الكرامة” بعد سنة من هذا الفيلم السوري الطويل، فنسوا أمري رغم مشاركتي في المظاهرات السلمية.

في صيف 2013، خرجت من الوطن إلى تركيا، وبعد سنتين من المعاناة المادية والصراعات السياسية العبثية هناك أيضًا، وبعد أن كشف المال السياسي عن عورة ممثلي الثورة وزيف شعاراتهم، بعت بيتي وكل ما أملك في قامشلي ثمنًا لقارب الموت الذي ركبته أنا وعائلتي لينقلنا، في مغامرة مجنونة، بعيدًا عن جحيم شرق المتوسط.