شذى الحبق …!

مثال سليمان

هنا، بجوار النافذة، حيث الليل يتكئ على ضلوع الجدران، أترك الزهور تنام فوق شريطٍ من قماشٍ خافت اللون. ثمّة عيون تترصدها من بعيد، حادة كنصل إبرة، وثمة نداءٍ تشتدّ قوته كما لو أن الفراغ فيه يزاحم الصدى كي لا يبتلعه. كل شيء يرتعش، لكن لا بأس، فبعض الاهتزازات ليست إلا محاولات الحياة للتماسك قبل أن تسقط في الفراغ.

في زاوية منسية، تتسلل الشقوق، لا تهديداً، بل حزناً يتنفس في صمت، يتلمس طريق العودة من النسيان، حيث القصيدة لن تكتمل، وحيث الديون العاطفية تسبق الاعتمادات المتاحة للغفران. كل شيءٍ مؤجل، حتى النبض الذي لم يقرر بعد إن كان سيسير إلى الأمام أم سيعود أدراجه.

العاطفة تئن شوقاً، تتقدم على الدوام، ترفرف كستارة خفيفة لا تعرف السكون، بينما خلف الصدر، طرقٌ خفيف على بابٍ واهي. ربما هي، التي، تشبهني تبحث عن حظها، ربما هو العقل يستيقظ من استعاراته، أو ربما هي مجرد ريحٍ أخرى تمر ولا تعني أحداً. وفي خرم الإبرة، يُكبح النصل قليلًا، لتنهمر أنهار الضباب، تحملها يدٌ لم تقرر بعد إن كانت ستحتويها أم ستتركها تسيل بلا نهاية.

على الطاولة، فنجان قهوة، مفرشٌ تتناثر عليه بقع الظل، ولوحة أضاعت طريقها إلى الاكتمال. يداي تضعان شيئاً خشية أن يسقط، خشية أن يترك أثراً لا يُمحى، خشية أن يذوب في النسيان كما ذاب كثيرون قبله. في الخارج، طريقٌ معتم، صامتٌ كأرواحٍ تجوب الحجرة بصمت.

الريح عاتية، تطرق النافذة بعبوسٍ بارد. وها ظلك يتكور على نفسه في الزاوية والزهور خلفه ترتجف، تحاول أن تحافظ على خفوتها. عند حدود العتمة، يخفق شيء ما، كقلبٍ عالقٍ بين الذكرى والنسيان.

سيعود الظلام، كما تعود الأشياء التي لا تجد بديلاً، كما يعود العقل إلى رصانته بعد جنونٍ قصير، كما تعود النجوم إلى مواقعها على محاورِ الكون الهائجة، تشتت الأصوات، وتعيد ترتيب الرحيل في مسافةٍ لا نهائية.

وأنا، هنا، لازلت أوقد المسافة بالأملِ . أما الليل، أجوب مساربه بشعلةِ الشّعر إلى أن يوقظني الغياب صوب صوتك.